قلب في محفظة

60
%d8%b7%d9%87-%d8%ae%d9%84%d9%8a%d9%84-1
طـــه خلـــيل

وحشة .. زاوية يكتبها طه خليل

كان قلبك كقلب عصفور يرتجف في يد صياد، منذ أن وعيت على قلبك، واستمر الوجفان والرجفان حتى شببت عن الطوق، هو نفسه ذلك القلب، القلب الذي أتعبَتْه سنوات البحث عن ظلّ الأميرة الأولى إذ غادرت سهولك وبراريك المسربلة بالشعر والندم، والأمنيات، تفتح القلب في ” تل معروف ” حيث كانت تتفتح هناك قلوب المؤمنين للشيخ الخزنوي، وللـ” مرقد ” والحجرات التي ينام فيها فقهاء من ريف سرى كانيي ودير الزور والبوكمال، كنت تقارن بين قلبك وقلوبهم ليلا فكنت ترتعش من الخوف: ” هؤلاء تفتحت قلوبهم لله، والايمان، والصلوات الخمس، وقلبك تفتح لحب غامض، كانت تدربك عليه امرأة تتقن قتل الرجال.”

وبقيت تحلم، وتكتب الشعر، وعندما لم تجد من يوصل رسائلك لجهتها، انطويت على خجلك ودهشتك وتركت الباب مشرعا لانتظار طويل، وحطّ بك الرحال في بلدة داعبت خيالك مرارا، بلدة قامشلى، وصلتها مثخناً بتعاويذ الأئمّة، وإرشادات أب عنيد علمك أن كل الدنيا حرام، الحبّ حرام، والخمر حرام، والسينما حرام، والنساء حرام، والانتظار حرام، وارتداء البناطيل ” الشلستو ” حرام، والاحذية ذات الكعب العالي حرام، وسيارات الحكومة حرام، والحيطان حرام، والخبز الذي يخبز في الأفران حرام، وأكل المطاعم حرام، والنظر في القمر حرام، وتحسس أية جهة في جسد الوحشة حرام، وضاقت قامشلى بك، مرة واحدة حاولت أن تحب، لم تكن تعرفها، كانت مجرد فتاة تمرّ من أمام بابك أثناء عودتها من المدرسة، وذات يوم كتبت لها رسالة على وجهي الورقة، لم تترك تجربة عاشق من الجاهليه والاسلام والعصور المتتالية إلا وتذكرتها وأنت تكتب لها تلك الكلمات، أنهيت الرسالة طويتها بعناية كامرأة تطوي قميص عزيزها الراحل، وضعتها في علبة كبريت فارغة، وانتظرت مرورها على الباب، وحين اقتربت، رميت لها علبة الكبريت ودلفت الى الحوش ولم تكن متأكدا هل أخذت رسالتك أم لا.. ومن يومها لم تعد تنتظرها أمام الباب، كنت تخجل من ” الحرام ” الذي ارتكبته، ومضت شهور المدرسة وعدت لقريتك، وأمضيت أشهر الصيف وسؤال واحد ووحيد يحرق دمك:” يا الهي هل حملت ” ن ” الرسالة أم تركتها على الأرض.؟”

ومضت السنوات، وتتالت، تخرجت من الجامعة وسافرت لبلاد بعيدة، تعرفت على نساء هنا وهناك، وأنجبت أطفالا هنا وهناك، وأحببت هنا وهناك، ومتت هنا وهناك، وكلما مرّ بي حرف النون تذكرت السؤال :” هل أخذت الرسالة ذاك اليوم أم تركتها على الأرض، لتعبث بها أرجل المارة والصبيان.

مرّت السنوات واكتشف العالم الانترنيت والتلفونات الذكية والغبية معا، وذات يوم تسألك صديقة من استانبول: ” هل تعرف امرأة من قامشلى تدعى ن.؟ وعلى الفور وبلا تذكر قلت: نعم .. كنت أحبها وذات مرة كتبت لها.. فقاطعتك الصديقة قائلة :هي جارتي في البناية،  بالأمس لا أدري كيف مرّ اسمك في حديثنا، وما إن ذكرت اسمك حتى أخرجت من محفظتها رسالة كنت قد كتبتها لها قبل 28 وسنة.!”.

إذا كانت يومها قد أخذت الرسالة، وتوقف السؤال،  هي لم تترك وحشتي على الأرض، ولكن خجل الدنيا وحده بقي، تلك وحشة رسالة تهلهلت وتوحشت ثمان وعشرين سنة في محفظة.

واليوم الخجل نفسه، يتوسع ويقسو ليرميني في وحشتي، والسؤال الشبيه الحارق، هل خفت ضوء روجآفا، هل يحفر الشوق سواقيه في روحها، أم انطفأ كل شي، هل ستتصل بي بعد ثلاثين سنة من تقول لي: ” تعال خذ قليلا  من ضوء، و” كلدانك قديم “، كانت تخبئ فيه وحشتها، يومها لن أصدق كثيرا، لأني قد متت.

5

التعليقات مغلقة.