انتظاراً لغودو الكردي

46
صبري1
صبري رسول

كلّما اجتاحت الحروب والقلاقل منطقة ما من جغرافية العالم مزّقتها، ومزّقت قبلها بنية المجتمع المدني، وتترك تمزيق الخرائط السياسية لمكوناتها التي تتقوقع كلّ منها، إثنياً ودينياً على نفسها، في خطوة تراجعيّة، تاركة خريطة الوطن تنهش فيها «القبليات السياسية» والعرقية والدينية، وصراعاتها على الوجود، والامتيازات.

        بلدان كثيرة مرّت في حروب داخلية وخارجية، أحرقت الطري قبل اليابس، ومزّقت المجتمع حتى لم تعُد له قائمة. لكن المشترك بين جميع الحروب أنّها تحرق الخرائط، وتُجزّأ دولاً لم يخطر على بال أحد بأنّها ستشهد تقسيماً ذات تاريخ، ولن تنتهي تلك الحروب إلّا بانتهاء تلك الخرائط. حدث أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، والثانية، وفي الصومال، والسودان، ويوغسلافيا السابقة. ولن تكون الحروب التي أشعلها الربيع العربي خارج سياق قوانين الحروب.

وسوريا لن تكون استثناء، والعراق قبلها، بل إنّ الحرب في سوريا ألحقت كوارث هائلة لا يمكن وصفها، فإذا كانت الجيوش تابعة للسياسة وفق منطق «الدولة الحديثة» كمفهوم سياسي، في سوريا السياسة تتبع العسكر ويُفرَض عليها منطق القوة، وإذا استمرّ الوضع طويلاً هكذا سيؤدي إلى انهيار الدولة كـ«كيان سياسي» وهذا ما لايريده أحد، لكن للحرب السورية منطق خاص، يخالف منطق الحروب الأهلية، والجيوش النظاميّة، فلا طرف سياسياً يتحكم بها، خاصة بعد أن أصبحت ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. فهناك عشرات الميليشيات العسكرية تقاتل في سوريا، ولكل منها أهداف خاصة وأجندات تتناقض والمصلحة العليا للشعب السوري.

أما ما يخصّ الوضع الكردي في سوريا منذ بداية الثورة السورية يمكن تلخيصه من عدة زوايا:

– حاولت الأحزاب الكرديّة تنظيم صفوفها منذ بدايات الثورة، لكن بسبب التأثيرات الإقليمية عليها تشكّل إطاران، المجلس الوطني الكردي 26/10/2011م ومجلس شعب لغرب كردستان. كان الأول يحظى بشعبية كبيرة، نتيجة التفاف القوى الشبابية والنسائية والتنسيقيات حوله، إلّا أنّ لجوء الثاني إلى امتلاك القوة العسكرية مكَّنه من السيطرة على الساحة، عسكرياً، أمّا سياسياً فعقد مع المجلس الوطني الكردي «اتفاقية هولير» لبناء إدارة مشتركة في كردستان سوريا، إلّا أننا يمكن أن نصف الحراك الثوري الكردي بأنّه قد توقّف نهائياً بعد تشكيل «الهيئة الكردية العليا» ولجانها، ليبدأ صراع آخر بين الإطارين، وبعد تجاذبات وحروب إعلامية كثيرة انتهت باتفاقية دهوك بينهما، إلا أنّها لم ترَ النور، وبقيت خارج معبر سيمالكا.

– بعدها بدأ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) بسياسة الإلغاء والإقصاء لإنهاء الحياة السياسية والمدنية في كردستان سوريا وتعليب مفاصل الحياة المدنية وفق منظوره الأيديولوجي في مؤسساتٍ شكليّة يحكمها العقل الأيديولوجي من الداخل.

– ما زادَ الوضعَ تعقيداً إلى جانب هذه الظروف اجتياح تنظيم داعش الإرهابي على كثير من المدن والبلدات في كردستان سوريا، مثل كوباني وسري كانيه، والحسكة وغيرها من بلدات مجاورة، مما ألحق دماراً هائلاً ونزوحاً للسكان.

لكن رغم كل ذلك يمتلك الكرد السوريون مقوماتٍ أساسية قويّة تؤهلهم للقيام بدور أكثر فاعلية في الثورة السورية، وفي حماية مناطقهم، وتوفير حياة أكثر هدوءً للسكان، لكن الصراع الكردي- الكردي لن ينتهي بسهولة، وقد يكون مرشحاً إلى انزلاقاتٍ خطيرة إذا استمرّ الأمر هكذا، و(PYD) يتحمّل المسؤولية مع منظومته السياسية، إذا لم يستجب للتقارب الكردي- الكردي، ورفض بقبول المختلف معه سياسياً. فقد أثبتت التجارب التاريخية فشل العقلية الشمولية المُعتمَدة على «الرؤية الأحادية» في خلقِ مناخاتٍ ملائمة للتطور الديمقراطي في حياة شعوبها، ويجب عليه الانفتاح على جميع عناصر القوة السياسية في المجتمع، وبناء الشراكة معها في قيادته، وعدم الاستفراد في القرارات المصيرية. من جانبٍ آخر لا بدّ من الإشارة إلى التّرهُّل الذي أصاب مفاصل المجلس الوطني الكردي، وجعله مُقعَداً يفكّرُ بعقلية متكلِّسة، ولا أعفيه من مسؤوليته التاريخية لتقاعُسه عن أداء دوره السياسي والإعلامي، وعليه البحث عن آلياتٍ جديدة تواكب المتغيرات في مؤتمره الرابع، ليبدأ بخطواتٍ جريئة سياسية وتنظيمية، دون أنْ يكون للتحزُّب طغيانٌ في تشكيلاته الجديدة، مستفيداً من الطَّاقات الخلاقة للشعب الكردي، وروح التضحية لديه، والابتعاد عن المحاصصة التي تعرقل الخطوات العملية، ورغم اعتقادي بأنّه لن يفعل ذلك، وينتظره أرشيف التّاريخ، إلّا أنّ الحقيقة يجب أن تُقال.

اليوم وأكثر من أي وقت مضى يحتاج الشعب الكردي إلى طيّ صفحة الخلافات بين القوى السياسية، والابتعاد عن التخندق الحزبي الضيق، لتوحيد الرؤية السياسية التي من شأنها توحيد الصف الكردي الذي لن يجد النور من خلال شعارات ودعوات.

كما يجب ألّا ننسى العمق الكردستاني في أجزاءه الأخرى كمؤثر إيجابي يمكن الإستفادة منه، وليس العكس، كان ذلك ممكناً أكثر لو انعقد المؤتمر القومي الكردي الشامل، الكفيل بحلّ التناقضات الثانوية بين القوى الكردية داخل كلّ إقليم على حدا وبين القوى في أجزاء كردستان عبر استراتيجية شاملة لتوحيد الطاقات الكُردية بعد توحيد رؤية سياسية متكاملة ووضع خصوصية كل جزء وفق ظروفه والقوى المجتمعية فيه وطبيعة المجتمع المدني. لكن للأسف، تسارُعُ الأحداث والخلافات السياسية العميقة أخّرَت هذه الخطوة.

نشر هذا المقال في العدد (50) من صحيفة Buyerpress تارخ 1/9/2016

11165113_541958725977071_7059124043412540130_n116

التعليقات مغلقة.