جرابلس…. جائزة ترضية أم بوابة عبور
التدخل التركي البري في جرابلس السورية مدان بكل المقاييس، لكنّه لم يأتِ كثمرة لتفاهمات أنقرة مع طهران وروسيا كما يظن البعض، بخلاف الرد الخجول للنظام السوري حيّال الموضوع الذي من الممكن أن يكون من ضمن تلك التفاهمات، فحين الإعلان عن حملة تحرير منبج طلبت تركيا من التحالف الغربي منحها بعض النفوذ في المنطقة الممتدة من جرابلس إلى إعزاز بعمق لا يتجاوز بضعة كيلومترات ومنحه الأخير ذلك بمثابة جائزة ترضية لها بعد أن خسرت أوراقاً كثيرة وفشلت مراراً في انتزاع قرار دولي بمنطقة عازلة أكثر عمقاً ومساحة رغم محاولات حثيثة وإطلاق مسمّيات عديدة على هذا الطرح التركي بدءاً من منطقة عازلة لحماية المدنيين ومنطقة بديلة لتجميع اللاجئين إلى منطقة نموذجية لسوريا المستقبل تموّلها الدول الغنية وتبنيها تركيا.
لا أعتقد أنّ التدخل التركي يمكن أن يتجاوز الحدود المسموح بها من قبل التحالف وأمريكا حتّى وإن رافقته خطابات الحرب وأناشيد النصر، فالملعب المخصّص لها لا يتجاوز مساحته مدينتي جرابلس وإعزاز و ما بينهما من شريط ضيق وهي كل ما يمكن أن تضحي بها الأطراف الرئيسية في الملعب السوري من أجل تركيا لاحتلالهما – كما أعتقد – والبقاء فيهما حتّى إشعار آخر… وليس لتحريرهما من داعش كما يظن البعض، كان بإمكان التحالف وقوات سوريا الديمقراطية أيضاً رفض هذا الطلب والزحف من الشرق إلى الغرب بموازاة شريط الحدود بدلاً من الالتفاف نحو الجنوب.
التواجد التركي لن يتمدد نحو مناطق إقليم الشمال الفيدرالي المزمع إعلانه و لن يُحدث اختراقاً لجغرافيّته باتجاه الداخل السوري بقدر ما يمكن أن يشكل مخفراً متقدماً يُصدّر إليه القلاقل والشغب من جواره القريب وأي تمدد تركي خارج المنطقتين المذكورتين سيبرر انسحاب قوات سوريا الديمقراطية من اتفاقها مع التحالف الغربي، وبالتالي انسحابها من الحملة الوشيكة لتحرير الباب والرقة والتي يتم التحضير لها منذ فترة، في الوقت الذي لا تستطيع فيه القوات التركية أداء هذه المهمة في الداخل السوري بكل عديدها وعتادها حتّى وإن طلب منها التحالف ذلك، لأسباب كثيرة لعلّ أبسطها عدم استعداد تركيا في الوقت الحالي لإعلان الحرب المباشرة على داعش وبقية التكفيريين – دعكم من مسرحية تحرير جرابلس- أمّا التصريحات النارية والزيارات المكوكية لمسؤوليها فليست سوى بضاعة للتسويق الداخلي بعد الانقلاب الفاشل وتبعاته كما لتهدئة أتباعها من السوريين المخدوعين بها وبمواقفها، أمريكا والغرب حتّى وإن تعاملتا بحذر خلال السنوات الماضية لن تتركان سوريا حتّى النهاية مستباحة أمام أطماع تركيا لاستخدامها جسراً نحو بناء شرق أوسط إسلامي, ولن تسمحان لها بالحظوة بالجائزة الكبرى رغم سعيها الدؤوب لسنوات، قبل أن تقتنع وإن على مضض بجوائز ترضية, تبقى في النهاية أفضل من لا شيء.
قرار التحالف في إغلاق طرق الإمداد بين تركيا وتنظيمات الجهاد السلفي في الداخل السوري كان نهائياً ولا زال ساري المفعول يلتقي مع قرار نهائي أيضاً لقوات سوريا الديمقراطية في تأمين ممر (كوريدور) يصل بين كوباني وعفرين بغية فكّ الحصار عن الأخيرة وتوحيد جغرافية إقليم الشمال السوري, إلى درجة يمكن القول فيها أنّ الاتفاق نفسه بهذا الخصوص هو نهائي واستراتيجي بين الطرفين وسيلقى قبولاً نسبياً حتى من قبل النظام وإيران حين تتعهد سلطات الإقليم المنشود بحماية الشيعة في بلدتي نبل والزهراء وقبول عضويتهما ضمن جغرافيتها.
قوات سوريا الديمقراطية لديها ما يكفي من هامش لتجنب الصدام المباشر مع تركيا في جرابلس وإعزاز بالانعطاف على الأرض نحو الجنوب للالتفاف منها إلى الشمال الغربي حيث عفرين، تماماً كما انعطفت تركيا في السياسة نحو الشرق لحفظ ماء وجهها في الجنوب، فمن منبج إلى الباب جنوباً وعلى طول المسافة منها إلى حدود عفرين ثمّة تنوع عرقي مختلط يلتقي في ثقافة وقيم وتقاليد فوق قومية، تجمعهم روابط جيرة ومصاهرة وشراكة عبر التاريخ يمكن التعويل عليها من قبل قوات سوريا الديمقراطية تحت شعار التشاركية بعد أن حققت هذه القوات انتصارات مدويّة على الفصائل الجهادية وعلى النظام نفسه، وبعد أن عايش الكثير من أبناء هذه المنطقة إرهاب داعش والنصرة وأحكامهم الجاهلية وصاروا يخشون على أبنائهم من ثقافة الإرهاب المنتشرة واستخدامهم وقوداً لنزاعات دمويّة من المرجح أنّها ستستمر إلى أجل غير مسمى في الداخل السوري الموبوء بين كتائب مختلفة جمعت بين صفوفها كل مرتزقة العالم التي تقتل نفسها من أجل خلافة خيالية !.
الوصول إلى عفرين عن طريق مناطق الشهباء ليس أمراً صعباً وتوحيد جغرافية الشمال السوري ضمن إقليم فيدرالي واحد ليس حلماً فقط عندما تَصدق أمريكا هذه المرة مع نفسها ومع العالم قبل الكرد بقطع طرق الإمداد من تركيا على التنظيمات السلفية في الداخل السوري فالحزام الفاصل حتّى وإن يكن بعمق مئات الأمتار حتّى وإن عجزت أمريكا عن فرضها بالقوة العسكرية يمكنها أن تلجأ إلى اتفاقيات مع وجهاء بعض القرى والبلدات على الخط من منبج أو من كوباني إلى عفرين وهو ما يكفي لتواصل أبناء عفرين مع أقرانهم في الطرف الآخر ويفي بالغرض في المرحلة الحالية.
إقليم الشمال التشاركي الممتد من نهر دجلة ومدن الجزيرة بمختلف مكوناته الدينية والعرقية إلى تل أبيض وكوباني ومنبج والباب إلى عفرين التي لن تعترض – كما أظن- على ضمّ بلدتي نبّل والزهراء الشيعيتين سيتحول إلى فسيفساء دينية وطائفية و فضاء ثقافي أكثر انفتاحاً وأكثر قابلية للتطور وأبعد عن أي تعصب، من المفترض أن يحظى برعاية غربية سيّما عندما يجتمع كل ذلك في موقع جغرافي يفتح طريق البحر الأبيض أمام خطوط الغاز والبترول في الشرق دون المرور بتركيا وبعيداً عن استغلالها وجشعها.
روسيا أيضاً تعاني من الجشع التركي ولن تعارض منطقة نفوذ غربية في الشمال السوري مقابل إقرار أمريكا لها برعاية الإقليم الغربي (الساحل) والاحتفاظ بموطئ قدم لها على بحر حيوي يتوسط العالم بعدما تقلص نفوذها في مناطق عديدة وحكمت عليها الجغرافيا أن تتحكم تركيا بخطوط غازها إلى أوربّا كما بممرات البحر الأسود نحو الغرب والجنوب حيث معظم أنشطتها العسكرية والاقتصادية.
الحديث بعد اليوم عن صِدام بين قوى كبرى في سوريا أو التعويل على تدخل تركي بري لإعادة خلط الأوراق وتحقيق توازنات جديدة مبالغ فيه، ومحاولات تشكيل جبهة عسكرية جديدة في الشمال السوري بزعامة تركيا وعضوية قوات بشمركة روجآفا كما يُتَوقع أن تكون تركيا قد طرحته على الرئيس بارزاني في زيارته الأخيرة مقابل قوات سوريا الديمقراطية للعب دور ما، تأتي في الوقت بدل الضائع تركياً وفي لحظة تاريخية حرجة كردياً، فنعتقد أن مباحثات الأطراف المعنية بالملف السوري تجاوزت منذ زمن مرحلة الخطوط العريضة إلى التفاصيل بغياب السوريين عنها وربما لن يكون بعيداً الإعلان عن موعد تقسيم الكعكة بغياب السوريين أيضاً …
سيراعى في مراسيم توزيع الجوائز وتقسيم الكعكة إرضاء الجميع عدا السوريين طالما بقيت معارضته السياسية تتنقل على موائد الجيران وبقيت بلادهم مشاعاً، وتركيا ستكون أول من استلمت نصيبها في جرابلس وإعزاز كونها انتظرت طويلاً في مقدمة الطابور.
*عضو المكتب السياسي في حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي)
نشر هذا المقال في العدد (50) من صحيفة Buyerpress تارخ 1/9/2016
التعليقات مغلقة.