الكُرد أيتام المفاوضات
هيثم محمد سليم حسكي
أظهر الصراع الدموي في سوريا “أو كما كانت تسمى ثورةً في يومٍ ما “، والممتدّ منذ سنوات مدى التصدع في المجتمع السوري أفقياً, وشاقولياً, وكذلك حجم و دور القوى الدولية، والإقليمية في تأجيج هذا الصراع لمصالح خاصة بها.
وتجلت تلك المصالح في المؤتمرات التي عُقِدت مؤخراً, ومنها مؤتمر الأستانة بنسختيه, والذي كانت عبارة عن صفقات بيع, وشراء بين القوى الإقليمية المتحكمة في المعارضة السورية, والقوى الدولية المتحكمة في النظام, فيما ظلت الولايات المتحدة الأمريكية, وبقية الدول الأوربية بعيدة عن تلك الصفقات على الأقل في العلن.
وكانت أولى ثمار تلك الصفقات هي صفقة تسليم حلب مقابل مناطق الباب, وجرابلس, وذلك لإيقاف التمدد الكُردي باتجاه ربط عفرين ,ومناطق الشهباء بمناطق كوباني, والجزيرة, حيث حاولت تركيا بكل نفوذها, وعبر مسرحية هزلية بالدخول إلى تلك المناطق بحجة محاربة داعش, ولم تقف تركيا عند هذا الحد فحسب, حيث كان الحلم الكُردي بتوصيل مناطق غربي كوردستان ببعضها وصولاً إلى البحر الهاجس الأكبر لها. فتوالت صفقات بيع وشراء مناطق المعارضة إلى النظام( متمثلةً بروسيا), فكانت عفرين مقابل مناطق ريف دمشق(الغوطة), واستمرت في محاربة الكُرد, والضغط على أمريكا لسحب القوات الكُردية من منبج, وتحجيمها في شرقي الفرات.
بالمقابل ظلَّ الكُرد بطرفيه حركة المجتمع الديمقراطي( TEV-DEM), والمجلس الوطني الكُردي ( ENKS) مستبعدين قسراً إما بشكل علني أو خفي عن كل ما يجري, وذلك بسبب الصراع السياسي بين الطرفين, وتبعيتهما لطرفين كُردستانيين لهما خلافات قديمة حديثة, ما انعكس سلباً على قضية الكُرد في سوريا.
فالمجلس الوطني الذي ظلَّ حبيس سياسات الحزب الديمقراطي الكُردستاني “الأم”, والمتمثل في بقائه بالإئتلاف السوري المدعوم تركياً, لم يستطع تقديم شيء ملموس للقضية الكُردية حتى على المستوى الثقافي, إذ رفضت قوى كثيرة داخل الإئتلاف بالحقوق الكُردية علناً, وذلك لضمانها المسبق لممثلي المجلس الذين تم شراء ذمم الكثير منهم, فلم يعد للمجلس أي دور في أية مفاوضات كانت تتم بين المعارضة والنظام, وقد عبّر عن ذلك صراحةً بعض قيادييه حين أعلنوا أن الإئتلاف يتخذ القرارات دون الرجوع إلى المجلس.
وفي الجهة المقابلة قام حزب العمال الكُردستاني باستثمار حركة المجتمع الديمقراطي ( TEV-DEM ) في سبيل الضغط السياسي على تركيا, و لإظهار نجمها في غربي كُردستان على حساب خلافها السابق مع الديمقراطي “الأم”, فكانت القضية الكُردية السورية هي الخاسر الأكبر في فقدها عفرين على الرغم من المقاومة البطولية للمقاتلين الكُرد.
ولعلَّ مقولة ( الكُرد أيتام المفاوضات ) ظلت العقدة التي تلاحق الكُرد عبر التاريخ, فعلى الرغم من الإنجازات العسكرية الواسعة للكُرد على الأرض إلا إنهم أخفقوا, وبشدة سياسياً, لعدم تبلور رؤية واضحة لدى الحركة الكُردية عموماً فبعضها كان يتصور أن النظام سيسقط خلال أشهر, والبعض الأخر انتهج خطاً ثالثاً مغايراً للمعارضة والنظام, وأخرى رأت أن التفاوض مع النظام عاجلاً أو آجلاً هو الحل الأنجع للقضية الكُردية السورية فهي كانت تؤمن أن الأزمة أو الثورة السورية, و إن طال بها الزمن ستحلّ, وعلى الكُرد تثبيت حقوقهم دستورياً, وقانونياً في المرحلة القادمة, وفي دمشق.
في ظل هذه التناقضات, وبقاء زمام تقسيم الكعكة السورية بيد القوى الدولية الكبرى متمثلةً بروسيا, وأمريكا, وإقليمية متمثلة بتركيا, وإيران, بات لزاماً على الكُرد تحديد خياراتهم المستقبلية فأمريكا التي كانت تدعم ما يسمى المعارضة المعتدلة حتى وقتٍ قريب, تركتهم لقمةً سائغة لروسيا بعد أخذ ضمانات بحماية الحدود الإسرائيلية مستقبلاً فكانت صفقة الجنوب. تلك الصفقة, وغيرها فتحت شهية النظام لتهديد الكُرد مباشرةً, واستعادة السيطرة على المناطق الواقعة تحت سيطرتهم عسكرياً في حال فشل المفاوضات.
من جهة أخرى التفرّد السياسي الذي انتهجته “TEV-DEM” في اتخاذ القرارات, وفتح جبهات عسكرية بإرادة أمريكية دون الحصول على ضمانات مستقبلية واضحة, فعلى الرغم من التطمينات الأمريكية بدعم الكُرد إلا أن الوقائع التاريخية أثبتت أن الأمريكيين لا يمكن الوثوق بهم إلى النهاية خاصةً فيما يتعلق بعلاقة دولة عظمى بتيار سياسي صغير, فتعاملها حتماً مرحلي, ويجب على الكُرد الاستفادة من ذلك بأقصى ما يمكن.
فأية اتفاقيات نهائية في حل القضية السورية عموماً ستكون بيد الولايات المتحدة, وروسيا بعد نفاذ أوراق تركيا في المنطقة نتيجة بيعها معظم مناطق المعارضة مقابل السيطرة على المناطق الكُردية ما يعني ضرورة تحديد الخيار المستقبلي. ولعلَّ النقطة الأهم تكمن بالعودة إلى البيت الكُردي الهشّ أصلاً, وعدم الإفراط فيما تم إنجازه عسكرياً, وإدارياً بالرغم من كل النواقص, وتشكيل حكومة تكنوقراط بصلاحيات مطلقة تكون مهمتها الأولى دعوة كافة الأطراف الكُردية للجلوس على طاولة مستديرة يتم فيها التوافق على الرؤى السياسية المستقبلية, وتكلف تلك الحكومة بنقل الرؤى, والتحاور مع أي طرف دولي أو محلي, يلي ذلك تشكيل مجلس عموم تشريعي مرحلي تكون للتيارات السياسية الكبيرة نسب متساوية في التمثيل, وتبقى النسبة الأخرى مفتوحة لعموم الشعب بكافة فئاته وفق انتخابات عامة تكون مهمته التصديق, ومناقشة القوانين, والقرارات الصادرة عن الحكومة المكلفة بأغلبية ساحقة كي يكون القرار جماعياً, و لا تحمل أية جهة مهما كان حجمها مسؤولية تاريخية. وللخروج من عنق الزجاجة, والتخلص من عقدة المفاوضات, على أن التفاوض يجب أن يكون من أجل تثبيت الحقوق الكُردية “إدارياً -ثقاقياً – اجتماعياً – اقتصادياً” في الدستور السوري المزمع كتابته في الفترة القادمة, وانتزاع اعتراف رسمي بإدارة المناطق الكُردية من النظام الحالي, وبشكل سلمي ستكون نقطة جوهرية في التخلص من تلك العقدة.
نشر هذا المقال في العدد /81/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/7/2018
التعليقات مغلقة.