دمشق تعترف بـ”جمهورية” كوسوفو وترفض حقوق مواطنيها
*طلال قافور
أعلنت وزارةُ الخارجيةِ في الحكومةِ السوريةِ الانتقاليةِ اعترافها الرسميّ بجمهوريةِ كوسوفو كـ “دولةٍ مستقلةٍ وذاتِ سيادة”، عقب اجتماعٍ ثلاثيٍّ في الرياض ضمّ سوريا والسعودية وكوسوفو.. هذا التطور أثارَ تساؤلاتٍ واسعةٍ حول دلالاتهِ السياسيةِ ودوافعِ دمشق، خاصةً أنه يأتي بعد سنواتٍ من الرفض السوريِّ للاعترافِ بكوسوفو انسجاماً مع الموقفِ الروسيِّ الداعمِ لصربيا.
هذا الاعتراف يحملُ دلالاتٍ عدةٍ على المستويين الإقليميِّ والدوليِّ، فمن جهة، يعكسُ رغبةَ دمشق في إعادةِ التموضع والانفتاحِ على العالمِ العربيِّ والدوليِّ بعد سنواتٍ من العزلةِ التي فرضتها الحربُ والعقوبات، كما أن انعقادهُ في الرياض يشيرُ إلى دورٍ سعوديٍّ متزايدٍ في إعادةِ دمجِ سوريا في محيطِها العربيِّ، وإبرازها كدولةٍ تسعى للانخراطِ في قضاياٍ دوليةٍ تُظهرها بمظهرِ الدولةِ “المسؤولة”، ومن جهةٍ أخرى، تبدو الخطوةُ رسالةً إلى موسكو بأن دمشق قادرةٌ على اتخاذِ قراراتٍ مستقلةٍ عندما تقتضي مصالحُها ذلك، خصوصاً أن روسيا ما زالت تعتبرُ كوسوفو جزءاً من صربيا وترفضُ الاعترافَ بها.
الاعترافُ بكوسوفو يمكنُ قراءتُه أيضاً كتحركٍ دبلوماسيٍّ يهدفُ إلى تحسينِ صورةِ دمشق الخارجية أمام الغرب، ومحاولة جذبٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ من دولٍ أوروبيةٍ وإسلاميةٍ مؤيدةٍ لاستقلالِ كوسوفو، وبعبارةٍ أخرى، تحاول دمشقُ الإيحاءَ بأنها عادت لاعباً إقليمياً منفتحاً على الحوار، بعدما ظلت سنواتٍ أسيرةً لمحورٍ واحد.
يُضافُ إلى ذلك، أنه من غيرِ المستبعد أن تكونَ تركيا قد أثّرت بشكلٍ غيرِ مباشرٍ في القرارِ في دمشق، فتركيا كانت من أوائلِ الدولِ التي اعترفت بكوسوفو وتعتبرُ استقلالَها نموذجاً لدولةٍ مسلمةٍ ناجحةٍ في أوروبا، وقد تكون رأت في اعترافِ دمشق خطوةً إيجابيةً ضمن مسارِ التقاربِ المتدرجِ بين البلدين.
لكن التناقض الأبرز في هذا الاعتراف يتمثلُ في المبررِ الذي ساقتهُ دمشق، إذ قالت إن القرار يأتي “انطلاقاً من إيمانها بحقِّ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها”.. هذا الخطابُ يبدو متناقضاً مع الممارساتِ الداخلية، حيث ترفضُ الحكومةُ الاعترافَ بحقوقٍ مكوناتٍ رئيسيةٍ داخلَ البلاد، وعلى رأسِها الشعبُ الكرديُّ الذي يطالب منذ سنواتٍ بحقوقٍ مشروعة، فكيف يمكنُ لحكومةٍ تتحدث عن “حقِّ الشعوبِ” في الخارجِ أن تتجاهله في الداخل، وتعتبرُ أي حديثٍ عن “اللامركزيةِ” أو “الحكمِ الذاتيِّ” تهديداً لوحدتِها الوطنية؟!.
هذا التناقضُ يعكسُ ازدواجيةَ الخطابِ لدى حكومةِ دمشق التي توظّفُ مبادئَ مثل “حقِّ تقريرِ المصيرِ” حين تخدمُ أهدافَها، وتتجاهلُها حين تمسُّ قضايا داخلية حساسة، ما يجعلُ الأمر أقربَ إلى مناورةٍ سياسيةٍ منه إلى موقفٍ مبدئيّ.. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسهُ هنا هو: أليس من الأولى أن تعترفَ دمشقُ بحقوقِ الشعوبِ والمكوناتِ داخلَ سوريا قبل أن تتحدثَ عن حقوقِ الشعوبِ الأخرى؟!.. المنطقُ السياسيُّ والأخلاقيُّ يقول إن الحكومةَ التي تؤمنُ بحقِّ تقريرِ المصيرِ عليها أن تبدأَ من الداخل، عبرَ حوارٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ يضمنُ المساواةَ والاعترافَ بالتنوع.
اعترافُ دمشق بكوسوفو خطوة تحملُ دلالاتٍ دبلوماسية، لكنها تضعُ دمشقَ أمامَ اختبارٍ أخلاقيٍ وسياسيٍ صعب، فهي من جهةٍ تسعى للعودةِ إلى الساحةِ الدوليةِ والانفتاحِ على محيطِها، ومن جهةٍ أخرى تكرّسُ تناقضَها الداخليَّ بين ما تعلنهُ في الخارجِ وما تمارسهُ في الداخل، فقبل أن تتحدثَ دمشقُ عن حقِّ الشعوبِ في الخارجِ في تقريرِ مصيرِها، يجدرُ بها أن تبدأَ بالاعترافِ بحقوقِ أبنائها أولاً.
*رئيس حزب السلام الديمقراطي الكردستاني
التعليقات مغلقة.