قراءة سريعة في مسار الثورة السورية
لا يخفى على أي متتبع لمسيرة الثورة السورية وخاصة عند انطلاقتها ، العفوية والاندفاع والتسرع في مطالبها واهدافها ، وتجاوز حجمها لكثير من القوى السياسية الكلاسيكية المعارضة و توقعاتها ،وبالتالي لم تتمكن هذه القوى نفسها من الاحاطة بها او قيادتها ، ولاقت صعوبة كبيرة في الانخراط والتفاعل معها ، فبرزت مخاطر جدية وحقيقية في انحراف هذه الحركة ضمن الظروف القائمة آنذاك ، وتوزعت خريطة الثورة بين قوميات مختلفة وعقائد دينية منغلقة وطوائف مبعثرة ، رغم ان بداياتها لم تشهد او تتخذ اي مظهر من مظاهر الطائفية او الصراع السياسي التقليدي ، فجماهير الثورة لم تكن تطمح الا في بعض التنازلات من النظام الاستبدادي كحرية العمل السياسي والغاء قانون الطوارئ والاحكام العرفية وحرية التظاهر والتعبير .. ،لقناعتها التامة بصلابة هذا النظام وتماسكه والكلفة الباهظة لإسقاطه ، حيث كانت تجربة الثمانينات وما فعله بحق الاخوان ماثلة في الاذهان وامام الاعين ، واستنادا لكل ذلك لم تكن الشعارات الاولى للانتفاضة تتجاوز المطالبة بالحرية والكرامة ووحدة الشعب السوري ودعم درعا والمدن الثائرة، لمعرفة الثوار بان تغيير النظام او اسقاطه يتطلب مشاركة اوسع وفعالية اكبر يتجاوز المئات ممن يخرجون للتظاهر كما يحتاج في الوقت نفسه الى موقف داعم من القوى الاقليمية والدولية ، ومع ارتفاع الاعداد المشاركة و ارتفاع منسوب التصريحات الاقليمية والدولية ، بعد مشاركة السفير الامريكي والتركي في مظاهرات حماة، ارتفع سقف الشعارات ووصل الى المطالبة باسقاط النظام دون ان تعي بان هذه المشاركة قد تكون كافية لا حداث تصدع او شرخ في بنية النظام السوري المتفسخ اصلا ، لكنها لن تكون كافية لتأمين القوة اللازمة للاستمرارية والاتساع بالمقدار الذي يمكنها من اسقاط النظام ، والاتيان بالبديل الوطني الديمقراطي ، كل ذلك ادى الى ذعر النظام وخوفه من نشوء حركة ثورية قادرة على تغييره والزج بقياداته في السجون والمعتقلات، وسرعان ما عمل على ضبط الاوضاع واعادة الثوار الى “الصف” والى الصراع التقليدي مما جعل رأس النظام يستقبل وفود شعبية من اغلب المحافظات السورية ، لتجديد ولائها وتحميلها رسالة تهديد ووعيد واتهام ، لكل من يخرج للتظاهر ،بالإرهاب ومعاداة الوطن ، ورفع شعار “الاسد او نحرق البلد “،لكن لا السلطة ولا المعارضة لم تكن تعي بان ما يحدث في سوريا يشير الى بدء مرحلة جديدة من الصراع ، اخترقت فيه للمرة الاولى الاطار التقليدي الذي كان يتحرك فيه ، ويشترط قواعد جديدة للاشتباك ومهمات تتناسب مع حجم المشاركة الشعبية الواسعة في طابعها التغييري، لجهة بدء عملية الانتقال السياسي واقامة البديل الوطني الديمقراطي، ولهذا كان على المعارضة ان تتوحد وتعمل في اطار جديد ومغاير لما كانته في الماضي ، حركة جديدة في شعاراتها وادواتها ودرجة تمثيلها لاوسع الفئات والقطاعات الشعبية ، بمعنى أخر كان على المعارضة ان تتوحد في حركة جديدة تختلف كليا او جذريا عما كانت السلطة السابقة ، وما مارسته من موبقات وفساد واستحواذ واستفراد وفئوية، الا ان هذه المعارضة كان يتهددها منذ البداية خطر يهدد وجودها ويلغي كيانها ، تمثل هذا الخطر في العفوية وغياب التنظيم والقيادة ، وضعف تماسكها السياسي والاعلامي والايديولوجي ، فانتشرت الاطر والهيئات التي ادعت تمثيلها وقيادتها للثورة دون ان تكون في حقيقة الامر كذلك ، الامر الذي مكن النظام من النجاح في خلق عوائق بينية و رئيسية بين مكونات الشعب السوري ، وتعامل مع كل منها بطريقة مختلفة ، ورسم لكل منها سياسة خاصة ، ففي البداية حاول استمالة الكرد بتجنيسهم واعطاء مزايا ومكاسب لبعض القوى ودعوتهم الى لقاء رأس النظام ، كما استطاع استمالة الطائفة التي ينتمي اليها من خلال تخويفها وترويعها من خطر الارهاب ، وبان جوهر الصراع هو صراع وجود او لا وجود ، وقد سهلت المعارضة مهمة النظام في توجهاته الطائفية هذه من خلال خطابها الذي استعدى المكونات ،وافتقد الى اللغة الوطنية الجامعة ، واصطدم بعائق القومية والطائفية (الاسلام الجهادي) مما وضع قسما كبيرا من السوريين في خدمة الثورة المضادة و أدى الى خروجهم من دائرة المواجهة ، و تكشفت المواجهة بين القومي والطائفي في اكثر من مكان وموقع ، وتعمد النظام على تكريس هذه المواجهة في محاولة منه لكسب الاقليات واظهار نفسه كحامي لها من التيارات الاصولية والجهادية ، وعمل في الوقت نفسه على ابقائها اسيرة لعلاقات الولاء و التبعية السابقة . لقد رعى النظام الارهاب والتطرف ،وتحول من شكله الديكتاتوري الى شكله الفاشي ، حين عجز عن استمرار سيطرته وتأمين هيمنته الكاملة على المجتمع بالطرق التقليدية في نظام ديمقراطيته الشكلية ، لذلك ارتد ضد هذه الديمقراطية الجوفاء وعمل على تعميم القمع والارهاب مستندا الى قطاع الجيش والدولة والفئات الشعبية البسيطة ، والى دعم ايران وروسيا وميليشيات حزب الله وبعض الدول الاخرى ، و حاول تحويل الصراع القائم الى صراع طائفي ، وسعى الى ضرب المكونات ببعضها ، واعتمد الحل الامني و العسكري، بتشجيع ودعم من القوى الاقليمية المتحالفة معه وخاصة ايران .
اخيرا يجب الاقرار بفشل قوى الثورة في اظهار حقيقة الصراع القائم كصراع بين موقع وطني تمثله هذه القوى وبين موقع فاشي تمثله قوى السلطة والارهاب والفساد ، وفي فهم حقيقة الثورة السورية التي كانت ستشكل انعطافا ونقطة مفصلية في تاريخ سوريا و المنطقة والعالم.
نشر ت في مجلة حنطة العدد 29 -15ذار 2017
التعليقات مغلقة.