شعرة الرسولة

30

وحشة زاوية يكتبها الكاتب والشاعر طه خليل لصحيفة “Buyerpress”

%d8%b7%d9%87-%d8%ae%d9%84%d9%8a%d9%84

فجأة تجد ان كل شيء قد تغير طعمه وتبدل، الهواء، الغيم، الطعام، المقربون منك والبعيدون، النوم، العمل، زملاء العمل، السيارة التي تعودت عليها منذ أكثر من عقد، الصقور التي عرفتها ريشة ريشة، وحتى السمك في بحيرة حياكا، كل شيء، كل شيء.!

في الليل تقترب من النوم، فتحسبه موتا، وتقترب من الكأس الموضوعة أمامك في ظلام السرير فتصطدم بها يدك المرتعشة، ليندلق الكأس بما فيها من سائل وألم، ويسيل دمك على ” سطح البيت ” يسيل جداول صغيرة ورفيعة ليختفي في شقوق الاسمنت الذي جففته الشموس والشوق إلى الراحلين، تمد يدك إلى جهاز صغير أمامك، جهاز يوصلك بالأحبة والأصدقاء، تمر على أسمائهم واحدا واحدا، و واحدة واحدة، فلا تجد رغبة لتقول لأحد: ” مسا لخير” ويمر بك اسمها، اسمها الذي تبدله كل يوم، اسمها الذي تختاره من فصيلة النبات مرة ومرة من أنواع الطيور الصغيرة، حجحجيك.. كـَوْ.. قِتِكْ وغيرها، تقف أمام الاسم ذاهلا وتتذكر:” ماذا فعلت بها.؟” ماذا جنيت على ليلها.؟ ماذا كان علي أن أفعله ولم أفعل.؟ ولا تجد جوابا يريحك من لسعة الوجع، ووحشة العزلة التي تنقاد اليها طواعية مرة، ومكرها مرة أخرى، فتتذكر الشعر، وتحس بأن الشعر الذي كتبته لها، لم يصلها يوما، والصلاة التي أقمتها من أجلها لم تشفع لك لحظة، وتتذكر أنها كانت رسولة ” روجآفا ” وضوء البلاد، ولكنك في العتمة، والظلام يدلك روحك، ويلينها، ويقسيها.

تنظر الى الاسم وكأنك لا تعرفه، وتقرأ ما كتبته عن روحها وجسورها وعن الموت وعن وحدتها وتعبها وتصرح لك كل الوقت: ” تعبت يا طه ” ولا تجد جوابا مريحا يليق بتعب عمرها وعمرك كذلك، تنتظر منها أن ترميك وراء تاريخها ولا تفعل، تنتظر أن تمسح اسمك من ذاكرة حديدها ولا تفعل، وترجوها لتقم عليك حد الهجر، وتذبحك بسكين الوقت ولا تفعل، ويتساقط عليك خرز غيابها كمطر نيسان، فتلم حسرتها من الخرز، وتهمس لكل خرزة ” ديري بالك على حالك.. وعليّ أيضا.” ويضيء الخرز كحجر البراق، ومرجان الطفولة، تكتب لها مخاتلا: ” أنا الرمل تحت مركب قديم… وجئت تدفعينه نحو الماء.”. ولا تصل القصيدة.

كل شيء يتبدل لديك، حتى شجيرة “الأكي دنيا” الصغيرة ترمي ورقها مصفرا على خيبتك، ووحشتك، فتهيل التراب على بذور وحشتك، لتنبت بعد يوم آلاف الشتلات وتملأ الحديقة بعيون الرسولة، العيون التي ما وددت لها دمعا، أو انكسارا، أو ترقبا.

تخاطب التعب كل الوقت، وتنثر الوقت كل الوقت باتجاه المقصلة وهي تنتظرك، وتعرف أنك مقبل عليها قريبا، تقول لها عن موتك ولا تتصوره، تبدي لها استعدادا وقبولا بالسير نحو النهاية في كل تجلياتها ومآلاتها، وصعابها فتصدك برفق، تمسك يدك كما تمسك الأم بيد وليدها وهو يرضع حليبه الأول، وتقول لك: ” لقد تعبت “.

هي وحشتك وأنت لم تعد تتقن الحب، وتجاوزت الحب للعبادة وتلك وحشة، ووحشة الرسولة التعب، ووحشة الرسولة ضوء خافت في ليل روجآفا، وأنت وحشتها، وعزلتها، والرسولة عزلتك، ولن تجد بعد اليوم يدا تسحبك منها كما تسحب امرأة شعرتها من عجينة الألم وهي تقصم ظهرك … وإلى يومك الأخير.

نُشر هذا المقال في العدد (51) من صحيفة “Buyerpress”

2016/10/1

%d8%ac%d8%b1%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d8%a7%d9%83%d8%b1%d8%a910

التعليقات مغلقة.