زاوية حادة: صحفي الزاوية.. اكتب أيها الحجر

42

إبراهيم خليل

براهيم خليل

يكتب الأديب حيث يشاء ووقت يشاء, لا شرط يلزمه سوى لحظة الإشراق ودفقة الإلهام التي تهبط عفو الخاطر في ساعة لا يتوقعها من ليل أو نهار, وغالباً ما يمتد الأجل بهذه اللحظات الإشراقية حتى تزينّ وتأخذ زخرفها, وقد يقضي في تنقيح عمله من الوقت أضعاف ما قضاه في إنتاجه طلبا لجودة الشكل والمضمون وبناءً على نفاذ البصيرة وموضوع وموضوعية النقد الذاتي.

من مكابدات كهذه, خرجت معظم الأعمال العظيمة الباقية بين أيدينا حتى اليوم، وفي الثلث اﻷول من القرن السابع عشر أصدر  الفرنسي “تيوفراست رونودو” La gazette كأول صحيفة رسمية في العالم وانشقت مهنة جديدة عن نظام الكتابة هي مهنة الصحفي، أو اﻷديب الذي يقسط شؤون الناس وشجونهم على دفعات يومية ولا يكدسها كما يفعل اﻷدباء.

اقتضى الإصدار اليومي للصحافة, بمرور الأيام والسنوات, وجود صحفيين مستكتبين بشكل يومي, لهم زوايا خاصة بهم عليهم ملء فراغها في موعد يومي وتبعا لطبيعة اﻷشياء، تغلب عامل الحرفة لدى الصحفي على حساب عامل الإبداع, وصار من المحتم عليه أن يبدع في موعد محدد وموضوع شبه معين وضمن معايير وسياسات صحفية قد لا تتفق تماما وآراءه.

الصحفي يلزمه شرط وقوع الحدث ولزوم الكتابة, ويلعب تسارع الوقائع معه دور زر الإطلاق بالنسبة للآلة, ولذلك يغلب أن يضحي بجوهر الإبداع على مذبح الحقيقة العارية وليس ذلك من شأن الأديب.

يفصل بين اﻷديب والصحفي خيط رفيع كثيراً ما ينقطع  فتندمج الصفتان ليتحول الصحفي إلى أديب أو الأديب إلى صحفي, الأول نتيجة لموهبة تأخرت في التفتح تنفي عنه صفة التكتيكي قصير النظر والثاني رغبة في حضور يومي ونيل حظ من الشهرة في أوساط قراء أصبحوا يفضلون, وهم أبناء عصر السرعة, قراءة اليومي العابر السريع على معالجة الملحمي الثقيل.

لا تخرج مراجع ( الصحفي الموظف) عن ثلاث : ما يقرأ أو ما يسمع أو ما يشاهد, ونادراً ما يتجشم عناء التفكر والتدبر أو التحليل والتركيب فتراه يكتب – معتمداً على تمرسه في الكتابة – عن تفاصيل حياته اليومية خطيرها وحقيرها, قد يكتب عن حواره مع أم عياله على الفطور عن غلاء المعيشة, أو يكتب عن نميمة أو مشاجرة شهدها في الشارع وهو جالس على كرسي في مقهى, بل قد تصل به قلة الحيلة وفراغ الذهن وضغط الوقت إلى تدبيج مقالة حول الدقائق القليلة التي سبقت كتابته للمقالة وكيف أنه استيقظ فشرب القهوة على صوت “فيروز” ثم تلقى اتصالاً من رئيس التحرير يذكره فيها بوجوب تحضير مقالة يوم الغد, وكيف أنه وقع في حيص بيص لم ينقذه منه سوى صوت بياع المازوت في الشارع, فذكره ذلك بأن الفصل شتاء وأن كثيراً من مواطنيه لا يجدون ثمن برميل المازوت فيشرع في الكتابة في الحال قبل أن يتخامد صوت بياع المازوت في أذنيه خاتماً المقالة بنداء إلى السادة المسؤولين من أجل النظر في حال الدراويش والحرافيش. ولا يلبث وقد فرغ من كتابة الزاوية أن يعدل من وضعية النظارات بيده اليمنى وهو ممسك بالمخطوط في يده الأخرى يدنيه ويبعده وعلى شفتيه ابتسامة إعجاب نابعة عن براعته في النثر وجرأته على التصدي للشأن العام ونصرة الجماهير الكادحة وشتم الفساد وأهله ولكن في الوقت نفسه دون إزعاج رجال السلطة ومسؤولي الحكومة وأرباب النفوذ وهذه لوحدها تضمن له اتصال رئيس التحرير به في يوم غد طالباً منه مقال العدد الجديد.

زاوية خاصة يكتبها ابراهيم خليل لصحيفة “Buyerpress”

2016/6/1

مقالات

 

التعليقات مغلقة.