مثقفون بين الارتزاق والمدح
أعرف شعراءً أهدوا قصائدهم لشهداء ومدن وشخصيات، وربما ثبّتوها في دواوينهم المطبوعة, ثم عادوا إليها ليعيدوا إهدائها إلى مدن وشخصيات وربما لشهداء آخرين. وهذا كله بعد إجراء ” مونتاج سحري ” عليها.. فما أشبه الليلة بالبارحة أيضاً…!
كان من السهل – في الماضي – على النقاد متابعي الأدب والأفكار, والمهتمين بالشأن الثقافيّ أن يرصدوا التحوّلات الطارئة أو الشاذة في مواقف الأدباء ورجال الفكر وقناعاتهم وسلوكياتهم. وبهذا لم يجد أحد الممدوحين؛ على سبيل المثال ” أبو الفضل ابن العميد ” صعوبة في ضبط المتنبي وهو يهديه قصيدة كان قد أهداها من قبل لـ” كافور الاخشيدي”، بعد أن أجرى عليها المتنبي بعض المونتاج، مستبدلاً “أبي المسك” بـ “أبا الفضل”
أبا المِسْكِ هل في الكأسِ فَضْلٌ أنالُه ….. فإنّي أُغَنّي منذُ حينٍ وَتَشرَبُ
هذا ما ينقله التراث الأدبي منذ ذلك لبحين, وهو تراث زاخر بمثل هذه الأخبار، فإذا كانت الشواذ الأدبية والفكرية ميسورة الرصد, فإنها اليوم ليست إطلاقاً على هذه الحال، لأن الكتابة هي نمط وهوية هذا العصر, وفوق كل بقعة من بقاع الأرض, وبين ثنايا كلّ لغة انتشرت الكتب والصحف والمجلات بغزارة غير مشهودة، كما انتشرت جيوش من الكتاب والمنشئين، وبذلك صار من الصعب رصد الشواذّ في الأفكار والمواقف كما صعبت ملاحقة السرقات الأدبية والفكرية بمختلف أشكالها وتدرجاتها ، ناهيك عن الاقتباس والتناص المتعمّد في أكثر الأحيان, وإذا ما ضبطت هنا أو هناك حالة مريبة فإن ذلك يحدث غالباً بالمصادفة, أو ربما في وقت متأخر تكون معرفة هذه الحالة مثل عدمها في تلك الآونة.
رغم هذه الصعوبات, ما زلنا نطالع فضائح من هذا النوع، وحالات متنوعة من السطو والارتزاق على أفكار الغير, ونتاجاتهم, وأبطالها كثر، وربما لكتاب معروفين أحياناً. ونتساءل ما الذي تغيّر, وما الذي حدا بالبعض أن يسلك هذا المنحى من التفكير والإقدام؟ أليست الثقافة هي المرآة العاكسة والتي يجري من خلالها تقييم نمو وتطور هذا البلد أو ذاك والخوض فيها لا يشير إلا الى أصحاب الذوق والاخلاق الرفيعة والذين يجسدون من خلالها خفايا مجتمعاتهم؟
وبما إن المياه الصافية الرقراقة تلوَّث دائماً بمخلفات شتى من منبعها حتى وصولها المصبات, فان كثيراً من الطارئين دخلوا على الثقافة ومن أبواب شتّى في فترات قلّ فيها النقاد, وفي ظلّ أنظمة لا ترى صورة أجمل من صورتها, وراحت تمنح الطارئين على الثقافة خامات ليفصلوها حسب ذوقهم, وطغى مصطلح الكمّ على النوع حيث كان تصنيف الثقافة والمثقفين يتأتى من مدى ولائهم لجهة ما.. ما الليلة بالبارحة..!
ثمة كتاب يدافعون عن الحداثة في بلد أو صحيفة، ثم يهاجمونها في مجلة وبلد آخر. وثمة كتاب يدافعون عن موقف فكري أو سياسي في مكان ثم يهاجمون الموقف في مكان آخر. ما أشبه اليوم بالأمس..!
أعرف شعراء أهدوا قصائدهم لشهداء ومدن وشخصيات، وربما ثبّتوها في دواوينهم المطبوعة. ثم عادوا إليها ليعيدوا إهدائها إلى مدن وشخصيات وربما لشهداء آخرين. وهذا كله بعد إجراء ” مونتاج سحري ” عليها. فما أشبه الليلة بالبارحة أيضاً…!
ثمة كتاب ما زالوا يدبّجون المدائح لـ” كافور”. ثم يشتمونه في السر وفي مجالسهم الخاصة, وثمة كتاب ما زالوا يهرهرون تحت أقدام هذا الـ ” كافور ” أو ذاك منتظرين الأعطيات والجوائز, وفئة منهم يصافحون بيدٍ ويخمّشون بالأخرى.
لا شيء غير أن الارتزاق الذي قرأنا عنه الكثير، ما زلنا نراه اليوم بين ظهرانينا سليلاً شرعياً لتلك الحساسية الوارفة … فيا للعائلة السليلة…!
نشر المقال في العدد (44) من صحيفة Buyerpress تاريخ 1-6-2016
التعليقات مغلقة.