ابتسم للكاميرا…
طه خليل
يبدو أن لا حدود للتطور التقني، والإلكتروني في هذا العالم السائر على ظلال نيوتن، واديسون، ومخترع كاميرا التصوير الفرنسي لويس داجيرا قبل حوالي المائتي سنة، ومن يومها أسرع الناس إلى حفظ صورهم وصور أحبائهم قبل الرحيل من هذه الدنيا الفانية، ولم يخطر ببال داجيرا أن العالم سيمتلئ يوما بقتلة ومجرمين يفخخون الدنيا، وسيحتاجون كاميرته لتوثيق المجازر، ولم يدر بخلده يوما أن جهات ما ستستخدمها كسلاح مرعب، ” يرهبون به أعداءهم وأعداء الله”، حتى وصلنا اليوم لما تسمى بكاميرات المراقبة، ويقال أن الفكرة ” لطشها ” اليابانيون والصينيون من قرآن المسلمين حين أخبر المؤمنين ان هناك ملاكيْن يرافقان المخلوق ويحسبان حركاته وسكناته، حسناته وسيئاته، طيلة حياته ليعدّوا عنه ملفا ضخما يقدمونه لمحكمة الإله يوم الحساب.
ومن يومها صارت الكاميرا ذات حساسية ورهبة لدى الناس، وكتب المحللون والاستراتيجيون عن رهبة الكاميرا، وكيفية الوقوف أمامها، وأوجد العلماء والمهندسون برامج كومبيوتر تتدخل في شؤون الصورة، فتضيف إليها ما تشاء وتحذف منها ما تشاء، فتقوم بعمليات تجميل لوجوه منخورة، وأنوف كبيرة، وأسنان مفلطحة، وتتدخل حتى بمشاعر الصورة، فتبدل الألم فرحا، وهكذا صار الناس يتجنبون التصوير خوفا، وصارت للصورة جيوشا من المرتزقة، والمندسين والقراصنة، للتجارة والابتزاز كذلك.
تسير في مدينة ما اليوم وثمّة من يجلس في غرفة صغيرة، يتتبع خطاك من البيت إلى الحمام إلى المطار إلى قضاء الحاجة، إلى المتجر، إلى سرير النوم، وانتقل الاختراع إلينا، وحيث تسير اليوم في روجآفايي كردستان، تجد أمامك كتابات تقول : ” ابتسم للكاميرا.” وبالطبع وضعت هذه الكاميرات لرصد المشبوهين وتحركاتهم، وهذا ما نحتاجه فعلا في هذه الظروف العصيبة، حيث تشعر وكأن الجميع يستعد للانقضاض على الكرد ومسحهم من الوجود، ولكن للموضوع جانبا آخر، فقبل أيام كنت في القرية أحصد الشعير، فجاء أحد العتالين الي طالبا مني أن أوصله للقرية لتبديل ملابسه التي امتلأت بالزؤان وغبار الحصاد، ولأن القرية كانت تبعد عنا حوالي الخمسة كيلو مترات، فقلت له مازحا:” يا رجل أمامك كل هذه الوديان والحفر، والمزارع، رح إلى زاوية ، وبدّل ثيابك واقض حاجتك “. فحدق الرجل في، وكانه يستغيث، وسألته ما بك.؟ قال:” الكاميرات..! أخاف ان تصورني الكاميرات!” قلت: أية كاميرات؟ قال: ” قال كاميرات .!!! ” . ثم أكمل ألا ترى في كل مكان: ابتسم للكاميرا.! قلت له:” لا أظن أن في هذه الحقول كاميرات، فقال والله وانا أحمل كيس الشعير كنت أمشي بأدب واحترام، خوفا أن تكون هناك كاميرا تصورني.
وتذكرت.. تذكرت كيف أملأ سيارتي بالصيادين وسناراتهم وأتجه إلى البحيرات الممنوعة اصطاد السمك، وكيف اتنقل بين الحين والحين بين البلدات في روجآفايي كردستان وتجلس معي في السيارة ضوء روجآفا، وحيرة الألم، كيف يحمرّ تفاح اللهفة ويستدير شوقا، كيف أنسى عين الكاميرات على الطرق فأمدّ يدا جريحة من الشوق واللهفة، لأعدّل غرة الضوء، وأنا اقف أمام الكاميرات… وكيف تسير السيارة لوحدها، وأغفو بين المقود ووحشة للحظة أشعر بوخز، ترى هل صورت كاميرات المراقبة خرزا أزرق تساقط من عينيّ ولمّته بيدين من ريحان.؟ يا للرعب و وحشة الصورة، سأحاول يوما أن ” ابتسم للكاميرا ” أمد لها لساني لأبدد وحشة الضوء كذلك.
وحشة: زاوية خاصة يكتبها طه خليل لصحيفة Buyerpress
2016/6/1
التعليقات مغلقة.