سرى سالى.. بنى سالى

48
طه خليل1
طه خليل

كان دأبنا كلما اقترب العام من نهايته، أن نجتمع، لنتشاور في شأن تشكيل مجموعات صغيرة ندور على البيوت، نبارك لهم ” رأس السنة ” كنا على الأغلب ثلاثة أطفال لكل مجموعة، ندهن وجه أحدنا أو أثنين منا، بسخام طنجرة غلي الحليب، فيتحول الى مخلوق آخر، أسود، وتبرق عيناه ببياض واضح، ونسمّيه ” قِرْدِكْ ” ندخل البيت ويبدأ ” قردكنا بالرقص، والنطنطة، ونغني لأهل البيت قائلين: ” سرى سالى بنى سالى خودي لاوكي بده كبانيكا مالى ” وتعني: ” أول السنة.. آخر السنة… فليهب الله ربّة البيت صبيا.” ونكرّر ذلك عدة مرات، حتى تتقدم ربة البيت وتقدم لنا نقودا او حفنات من الحنطة، ونخرج مرددين الأغنية ذاتها، وكان بعض العوائل تقدم لنا حفنات برغل أو حتى بعض الطحين، وبالطبع كنا نمسك بتلابيب ثوبنا لنضع فيه ما قدمه لنا الناس.. ولكن كان ثمّة من يغشنا كذلك، بعض النسوة الشريرات كنّ في الظلام يضعن في أكياسنا او أثوابنا حفنات من التراب.. فيختلط بالبرغل والقمح والعدس، وكنا نكتشف فعلتهن لمجرد خروجنا من البيت اذ كنا نتفحص ما قدمته لنا، وحين نرى أن احداهن قد غشت، نعود الى البيت لنغني لها :” سرى مالي بنى مالى… خودى دحشككي بدى كبانيكا مالى” ونحول الصبي الى جحش، ثم نهرب شاتمين. كان ذلك قبل وصول الكهرباء لقرانا، وقبل مجيء التلفزيونات، وقبل أن نتعرف على بابا نويل أو شجرة الميلاد وأجراسها، ونجومها اللامعة، كنا نظل أياما حتى نمسح سخام قدر الحليب من وجوهنا، وكنا نكتفي بدريهمات قليلة نلمها في تلك السنين، ونفرح بعدها إثني عشر شهرا، حتى يجيء رأس السنة التالية.

مرّت سنواتنا بسرعة، تفوق سرعة نمونا، ومرت طفولتنا بين سخام القدور والرعب من معلمين عرب يأتون إلينا من درعا وحمص والسويداء، معلمون يتحدثون لغة أخرى غير لغتنا، ويسخرون منا حين كنا نتحدث الكردية، فكانوا يعنفوننا ساخرين: ” بربربربر.. ما هذا.؟ احكوا متل البشر .!” وكنا نشك أننا بشر، وأن اللغة العربية هي وحدها لغة البشر، ونحن مجرد أشباه بشر رمتنا أقدار الكرد في بلاد العرب، يومها لم يكلف أحد خاطره ويقول لنا مثلا:” بل أنتم أصحاب الأرض.. وأصحاب اللغة، وأصحاب التاريخ، وأصحاب الحضارة، وأصحاب ” سرى سالى ” وانتم أحفاد رجال ونساء بنوا الجمال في الأرض، وسوروها بحناء قلوبهم، لم يقل لنا أحد ذلك.( لهذا عليّ أن أقول هذا اليوم لقارئتي زلال ابنة صديقي.)

واليوم اذ تقترب السنة من بدايتها أحاول أن أتخيل رسولة البحيرات تجيء إلي وقد دهنت وجهها، وتنطنط أمامي تغني لي أية أغنية ما، أية أغنية كانت، لأنظر اليها بحبّ السنوات وقهرها، وتعبها، ثم أحدق في عينيها الحزينتين وأقف متحاملا على حزني المديد، لأفتح صدري، وأمد يدي اليه، آخذ منه شيئا، ثم أضعه في محفظتها، وتخرج، فأراقبها في العتمة كيف تفتح محفظتها لترى شيئا ينبض هناك، وحوله كحل الهند، ومكحلة الأميرات الكرديات، واذ تلتفت لتقول لي شيئا، فاسبقها وأقول:” هو لك… لم أعد أحتاجه.” فلينبض بيدك وعلى كتفك، مادام عطر شعرك يفك قيود الروح، ومادام بريق عينيك يخضر على كتفي نعناع وحشة، وسلماس تاريخ.

 

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 34 بتاريخ 2016/1/1

 

110

التعليقات مغلقة.