“سورية مسرحاً للصراعات الدراماتيكية”

24
محمد شوقي
د. شوقي محمد أكاديمي وباحث اقتصادي

 

لعل أسوأ ما مرّ به التاريخ السوري هي حالة الحرب المفتوحة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من أربعة أعوام تقودها نحو كارثة إنسانية بشعة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من المحادثات الدبلوماسية المستمرة، بين القوى الإقليمية والدولية وتلك الفاعلة على الأرض إلا أنه لم تسدل الستارة بعد في مسرحية العنف والدمار التي ما تزال تعرض على خشبة مسرح سورية, والمستمرّة وفق إدارة وإرادة القوى الدولية العظمى التي تمسك بخيوط اللعبة منذ البداية وتسير أحداث وشخصيات المسرحية التراجيدية المؤلمة بما يتوافق مع مصالحها المتنافرة أصلاً باتجاهات مختلفة، اختلاف مشاريعها وأجنداتها داخل سورية خصوصاً وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً, فتزيد من تشرذم الواقع السوريّ وتطيل النفق المظلم أبعد ما يكون ليقوم أمراء الحرب وبيادقها بتنفيذ تلك الإرادة وفقاً لسيناريوهات العنف المعهودة والتدخلات والمواجهات العسكرية المتتالية والتي قضت على المقدرات الاقتصادية والبشرية والعسكرية للدولة والشعب معاً فخسرنا شبابنا ثروة المستقبل وقمحنا وزيتوننا ونفطنا واستثماراتنا ورؤوس أموالنا وتهاوى بنيان مجتمعنا لتصبّ كل تلك الأحداث في بوتقة العنف الدائر وتسعر نيرانه فتحرق سهول الفلاحين وتدمر مصانع العاملين ومدارس الأطفال واليافعين ومستشفيات المرضى والسقيمين ولتزيد يوماً بعد يوم معاناة السوريين أمنياً واجتماعياً واقتصادياً, ليصبحوا نازحين أو لاجئين يعانون الفقر والتشرد.

ومع تعقّد المشهد السياسي والعسكريّ على الساحة السورية تدرك جميع الأطراف المتصارعة دبلوماسياً وعسكرياً أن لا حلّ يلوح في الأفق القريب بعيداً عن إرادة وتوافقات الولايات المتحدة ووروسيا ومن ورائهما الصين وإيران وتركيا والسعودية. وإذا بات واضحاً الدور الروسيّ المؤثر في رسم معالم سورية الجديدة بعد تدخلها العسكريّ المباشر تحت ذريعة محاربة الإرهاب والمواقف الفضفاضة من قبل الولايات المتحدة اتجاه هذا التدخل فإننا ندرك توافقاً روسياً أمريكياً في حدوده الدنيا تجاه مستقبل سورية فالولايات المتحدة التي صرفت مليارات الدولارات في حربها في العراق الذي يملك مخزوناً نفطياً هائلاً يهمها بالدرجة الأولى بقاء الحدود العراقية السورية آمنة وخالية من الجماعات الإرهابية لا سيما تنظيم الدولة مما دعاها لتغيير الكثير من تكتيكاتها السياسية والعسكرية في سورية من خلال قيادتها تحالفاً دولياً ضد داعش واعتمادها على بعض الجماعات المسلحة الفاعلة على الأرض كوحدات حماية الشعب الكردية التي خلقت من خلال انتصاراتها على الجماعات الإرهابية المسلحة (النصرة وداعش) واقعاً مغايراً في منطقة شمال وشمال شرقي سورية. ومع تدخل موسكو مباشرة في المشهد العسكري السوري وانتقالها من مرحلة الفعل السياسي إلى مرحلة الفعل العسكري فهي تهدف ولا شك في التأثير في موازين القوى التي سترسم ملامح الحل السياسي (إن وجد) على أساس قراءتها لبيان جنيف1 ولتضمن لنفسها الحصة الأكبر في المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارية مستقبلاً, وهذا ما لا يسعد حلفاء الحكومة السورية الإقليميين إيران وحزب الله المدركتين للتقاربات والتفاهمات الاستراتيجية الروسية الإسرائيلية.

وأمام ذلك لا بد من الغوص في المشاريع والرؤى الاستراتيجية لتلك القوى الدولية والإقليمية لمآلات الصراع في سورية فالمشروع الأمريكي يقضي منذ البداية ومن خلال ما سميت بالحرب الناعمة أو الفوضى الخلاقة إلى إمادة الصراع في سورية قدر الزمن مع ضرورة كل ما يخلفه هذا الصراع من تدمير لمقدرات البلد الذي يشكل نقطة استراتيجية حساسة جيوسياسياً في منطقة الشرق الأوسط واستنزافه اقتصادياً وعسكرياً وبشرياً وتغيير واقعه الديمغرافي بما يفضي في النهاية إلى تفكيك الدولة الواحدة إلى دويلات أو أنظمة فيدرالية لا مركزية مع تقبل بقاء الأسد في السلطة (وهذا ما تؤيده إيران أياً كان الثمن لضمان الحليف الاستراتيجي الذي يسمح بوصول الدعم العسكري إلى حزب الله اللبناني) ولكن ضمن منطقة جغرافية محددة تشكل واحدة من ثلاثة مناطق تخضع الثانية للكرد في حين تبقي الثالثة في حالة حرب استنزاف مفتوحة مع القوات النظامية وحلفائها الروس والإيرانيين. أما المشروع الروسي الذي يهدف جعل روسيا لاعباً رئيسياً في وضع ملامح وشكل النظام القادم في سوريا والتحكم قدر المستطاع في القرار السياسي والاقتصادي للسلطة القادمة فترى في ذلك ضرورة الإبقاء على الأسد ومن بعده المؤسسات الأمنية والعسكرية الذي فتح الباب أمام الدب الروسي لينهض من غفوة استمرت قرابة 25 عاماً يبحث له عن موطئ قدم جديد في ميدان السياسة الدولية كقوة عظمى ويفرض نفسه لاعباً رئيسياً في أي حل سياسي للأزمة السورية باتت هي من تبحث عنه خوفاً من إطالة مدة عملياتها العسكرية في سورية وعدم قدرتها على تحمل التبعات الاقتصادية لتلك العمليات التي تكلف ميزانيتها العسكرية ملايين الدولارات يومياً. أما القوى الاقليمية فإنها رأت في الورقة السورية وسيلة لتحقيق التراتبية الإقليمية والعديد من المكاسب السياسية على الساحة الشرق أوسطية ولتطرح نفسها كقوى قيادية لها تأثيرها في الأحداث والسياسات الجارية في المنطقة.

ومن خلال قراءتنا للدعوات المتكررة من الأطراف الدولية لعقد المؤتمرات والبحث عن شكل للمفاوضات بين الحكومة السورية ومعارضيها والبحث في سبل للوصول إلى مخرج يرضي جميع الأطراف غير المتوافقة (وهي معادلة أثبتت عدم إمكانية تحققها حتى الآن) ترى القوى الدولية أن الاستمرار في القتال والمواجهات المسلحة وبدون خريطة طريق واضحة في النهاية أو ربما الانهيار المفاجئ للحكومة السورية قد تخلق حالة من الفوضى المرعبة والتي قد تخرج عن السيطرة فتؤسس لصراع أهلي طويل الأمد يصيب المنطقة بحالة من عدم الاستقرار ويساهم في تعميق الفكر الإرهابي وتمدد جماعاته جغرافياً وسياسياً. لذلك وبعد التحولات الدراماتيكية للأحداث في سورية رأت هذه القوى نفسها أمام ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة وكيانها السياسي ولكن ضمن مصالحها الإقليمية وبما لا يخرج عن إطار سياساتها وتوجهاتها في المنطقة وبما يضمن لها تأثيراً فعالاً في تكوين شكل النظام في سورية مستقبلاً مع ضرورة ترافق ذلك في تحقيق بعض مطالب القوى المجتمعية في الحرية والديمقراطية ووضع دستور جديد للبلاد يضمن حقوق المواطنة من جهة وحقوق جميع مكونات الشعب السوري من جهة أخرى.

وهنا يشكل المكون الكردي أيضاً معادلة صعبة التحقيق فبعد طمس الهوية القومية للكرد خلال الفترة السابقة في سورية إلا أنه عاد وفرض نفسه رقماً رئيسياً في المشهدين السياسي والعسكري السوري. فعسكرياً تعتبر القوات الكردية متمثلة “بوحدات حماية الشعب” القوة الوحيدة في سورية التي استطاعت الوقوف في وجه الجماعات الإرهابية المسلحة وتطهير مناطقهم منها أما سياسياً ومع كل الانتقادات التي يوجهها المجلس الوطني الكردي للممارسات المتفردة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي إلا أنه استطاع أن يحمي المناطق الكردية من الانجرار إلى الفوضى وحالة الفراغ الأمني ويديرها خدمياً وإدارياً ولو في الحدود الدنيا في ظل تراجع دور وقدرة الحكومة السورية في القيام بذلك لصالح المناطق الداخلية.

إلا أن مآلات التطلعات الكردية في سورية ترتبط بلا شك برغبة القوى الدولية ورؤاها المستقبلية ليس لشكل النظام القادم في سورية فحسب بل وبشكل مستقبل الشرق الأوسط عموماً.

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 34 بتاريخ 2016/1/1

13

التعليقات مغلقة.