العشائرية ودورها في المجتمع الكردي السوري: من التراجع إلى العودة ؟

39

الكاتب أكرم حسين

تُمثّل العشيرة إحدى البُنى الاجتماعية التقليدية الراسخة في الشرق الأوسط، وقد اضطلعت تاريخياً بوظائف متعددة تتراوح بين توفير الحماية وضمان الانتماء الاجتماعي وتنظيم العلاقات الداخلية في ظل غياب السلطة المركزية الفاعلة أو حضورها القمعي. غير أنّ المجتمع الكردي في سوريا مثّل استثناءً نسبياً عن هذا النمط ، إذ لم تحظَ العشائرية فيه بالمكانة المحورية التي شغلتها عند المجموعات الأخرى، ويُعزى ذلك إلى الخصوصية البنيوية للمجتمع الكردي الذي اتجه، منذ منتصف القرن العشرين، نحو التسييس والتمركز حول الفعل الحزبي بوصفه الإطار الجامع والفاعل في إنتاج الهوية السياسية الحديثة.

مع تأسيس أول حزب كردي في سوريا عام 1957، بدأت الحركة السياسية الكردية بالتبلور كمرجعية رئيسية، واستطاعت، رغم الانقسامات والتشرذم التنظيمي، أن تستقطب الشرائح الاجتماعية الناشطة، ولا سيما فئة الشباب ،  وقد أسهم ذلك في تراجع المكانة الاجتماعية للعشيرة، حيث ارتبطت المكانة والوجاهة بدرجة الانخراط في العمل الحزبي أو القرب من قياداته، بينما انحصر الدور العشائري في وظائف اجتماعية محدودة، كالمصاهرة وتسوية بعض النزاعات.

غير أنّ التحولات البنيوية التي شهدتها سوريا منذ عام 2011 أعادت صياغة علاقة المجتمع الكردي بمؤسساته التقليدية والسياسية. فقد كشفت الانتفاضة السورية وما رافقها من انهيارات مؤسسية عن محدودية قدرة الأحزاب الكردية على قيادة الحراك أو إنتاج رؤية سياسية جامعة، الأمر الذي انعكس في تراجع مكانتها المجتمعية وفقدانها وظيفتها التمثيلية. في المقابل، أعادت العشيرة إنتاج ذاتها كإطار بديل يوفر آليات للتماسك الاجتماعي ويمنح شكلاً من الشرعية الرمزية في ظل الفراغ السياسي والأمني ، وقد تجلى ذلك في بروز مؤتمرات وتجمعات حملت عناوين مثل “مجالس العشائر” أو “تنصيب الشيوخ”، وهي ظاهرة بدت غير مألوفة في السياق الكردي السوري قبل هذه المرحلة.

تفسير هذه العودة لا يمكن عزوه إلى الحنين للماضي فحسب، بل إلى تفاعل جملة من العوامل الموضوعية، أبرزها غياب مرجعية سياسية موحدة، تفكك سلطة الدولة، وتراجع فاعلية البنى الحزبية. كما أنّ هذه الظاهرة لم تكن محض تعبير اجتماعي داخلي، إذ أسهمت أطراف محلية وإقليمية في إعادة تنشيط العشائرية وتوظيفها كأداة لتعويض غياب التمثيل السياسي أو كوسيلة لتعزيز النفوذ وإعادة توزيع موازين القوة. بذلك، تجاوزت العشيرة وظيفتها التقليدية لتصبح أداة سياسية قابلة للتفعيل والتعطيل تبعاً لمتغيرات الصراع.

رغم ذلك، لا يمكن توصيف المجتمع الكردي السوري بعد 2011 كمجتمع عشائري خالص، إذ ما تزال الأحزاب، على ضعفها، حاضرة كأطر سياسية قائمة، وإن كان ذلك في سياق من التراجع والانحسار. ما نشهده هو حالة مزدوجة، تتقاطع فيها المرجعيات الحزبية مع صعود العشيرة كفاعل اجتماعي–سياسي بديل. هذه الازدواجية تكشف في جوهرها هشاشة البنية المؤسسية للحركة السياسية الكردية التي لم تستند إلى مؤسسات راسخة بقدر ما اعتمدت على غياب البدائل.

يمكن الاستنتاج أن عودة العشائرية إلى الواجهة بعد عام 2011 تمثل انعكاساً مباشراً لأزمة الحركة السياسية الكردية وغياب مشروع وطني جامع، لكنها ليست مساراً حتمياً أو قدراً اجتماعياً. فالمجتمع الكردي، في بنيته العميقة، يظل مجتمعاً مسيّساً ذا حساسية عالية تجاه قضاياه القومية والوطنية ، وإذا ما أعادت القوى الكردية إنتاج ذاتها على أسس تنظيمية ومؤسساتية حديثة، وبنت مشروعاً سياسياً ديمقراطياً قادراً على تمثيل المجتمع، فإن تأثير العشيرة سيتراجع تدريجياً إلى دوره الاجتماعي الطبيعي دون أن يتضخم سياسياً ، وعليه، فإن صعود العشائرية لا يعكس قوة ذاتية لبنيتها التقليدية بقدر ما يعكس ضعف البنية الحزبية وتراجع فعاليتها في لحظة تاريخية معينة

التعليقات مغلقة.