“ابن خالة” محمود درويش و”أبو الخير” بمقهى حلبيّ
أمام عيادة طبيب الاسنان جورج. ج. سيمونيدس، مغلقة النوافذ والابواب، التي لا يعرف عن أحد أنه زارها، يقع مقهى القصر بحلب. واجهته الزجاجية الرئيسية، المطلة على شارع بارون، تعلوها عبارة بالابيض الكالح وبخط الرقعة “صالة مكيَّفة للعائلات”، أما مدخله فمن الشارع الجانبي الذي ينتهي إلى زاوية الحديقة العامة، أو المشتل كما يسميها الحلبيون.
عام الافتتاح
لكن الكلام ليس عن مقهى القصر، ولا شارع بارون، ولا حتى عن طبيب الاسنان يوناني الأصل، مجهول الهيئة سيمونيدس. الكلام عن نمر وأبو الخير نادلَي هذا المقهى منذ أن افتتح سنة 1957.
“لا تصدّقه” يقول أبو الخير عن نمر، “فهو لم يكن عند افتتاح المقهى، كنت وحدي وأنا من سعى لتعيينه بعد حوالى سنتين من الافتتاح” يخشخش أبو الخير بالليرات الموجودة في جيبيّ صدريته البيضاء المتسخة قليلاً، لكنها توحي أن محاولة ما لتنظيفها ما زالت مستمرة. أبو الخير، الستيني المظهر على مدى العشرين سنة التي عرفته فيها، كان نحيلاً لدرجة أن الفراغ المتشكل بين جلد رقبته وياقة القميص، التي يحرص دائماً على إغلاق زرّها الأعلى، يتسع لقبضة يد.
“لؤي كيالي الله يرحمه كان من أفضل الزبائن، رجل محترم وفهمان حقيقي. يجلس هناك في الزاوية مسنوداً بحائطين. كان يأتي بلوحات صغيرة من رسمه ويعلق بعضها بين فترة وأخرى على حيطان المقهى، وفي كثير من الأحيان خصوصاً في الأعياد، كان ينده لي ويشير إلى إحدى اللوحات ويقول: أبو الخير ما معي مصاري خذ هذه وبعها وتقاسموا ثمنها”.
– وهل كنتٓ تفعل ذلك أبو الخير؟!
– اي نعم. كنتُ أبيعها بحوالى 60 إلى 100 ليرة سورية وأتقاسمها مع بقية شغيلة المحل.
يوم الإغلاق الغريب
أبو الخير يعمل في الشيفت الصباحي، أي من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً، ولذلك كان هو من رأيته يوم الجمعة 21 يناير/كانون الثاني 1994 يمشي بنظرات تائهة خلف نظارتين، بعدستي كعب الفنجان، على رصيف المقهى المغلقة أبوابه حداداً على موت باسل الأسد! الكثير من رواد المقهى المعتادين على الوصول في هذا الوقت، كانوا أيضاً يحيصون على الرصيفين المتعامدين المحيطين بالمقهى. “لم يغلق المقهى أبوابه لأي مناسبة ولأي حدث منذ أن افتتح”. قال أبو الخير وهو لا يعرف كيف يعود إلى بيته في مثل هذا الوقت من اليوم طيلة الاربعين سنة السابقة. ليس المقهى وحده ما كان مغلقاً، حلب كلها أُمرتْ بالإغلاق ، سورية كلها كان يجب عليها أن توقف الحياة فيها في ذلك اليوم، فثمة حدث مزلزل يعصف بالبلد: مات الفارس الذهبي باسل الأسد.
أنا ابن خالة محمود درويش
نمر ممتعض دوماً. يأتي في الرابعة عصراً وينصرف في منتصف الليل، وقت تشطيب المقهى، ويشرف على التأكد من أن جميع الطاولات قد نُظفتْ قبل الرحيل. لكنه لا يضحك أبداً. نمر من فلسطين، لكنته واضحة وجدّيته أيضاً. لا يبوح بالكثير للكثير، لكن الذي لاينفك يردده كلما سنحت فرصة، أو حتى لم تسنح، فقط للتعريض بهؤلاء المثقفين الثرثارين: “محمود درويش ابن خالتي” يستمتع حين يقولها لشاب جديد انضم إلى واحدة من تلك الطاولات، التي غالباً ما يتزعمها كاتب أو فنان أو محام، فقط ليرى ردة فعله ونظرات عدم التصديق، ليكمل بطريقة تظهر لامبالاة بما سيقوله “نعم، أمه التي يحكي عنها دائماً في قصائده هي خالتي، أخت أمي ومن نفس القرية”.
نمر بعد ذلك غير معني بتقديم أي إثبات أو دليل، هو فقط يستمر بالنظر إلى الزبائن بشفة مقلوبة ونظرة متعضة.
طاولات مشهورة
في مقهى القصر، تلي طاولة لؤي كيالي شهرة في تاريخ المقهى، طاولة وليد إخلاصي الذي يأتي مرتين يومياً: الأولى بعد انتهاء فترة دوامه الصباحي في مؤسسة الأقطان القريبة بمنطقة باب الفرج، أي حوالى الساعة الثانية والربع ظهراً ليجلس أقل من ساعة، والثانية في السابعة والنصف مساءً بعد فترة دوامه المسائية، ليبقى حتى التاسعة قبل أن يتوجه مشياً إلى منزله في طلعة كلية الهندسة، غالباً بصحبة أحد من مجالسي طاولته. لا يتغير هذا الإيقاع طالما أنه بحلب، وليس في واحدة من أسفاره الكثيرة، وطالما أن اليوم ليس الجمعة حيث يأتي مساءً فقط.
نمر وأبو الخير يقدمان القهوة الاسبرسو فقط. ليس هناك من مشروبات أخرى في مقهى القصر. الخيار المتاح لك هو أن تطلب القهوة (كبسة) أو ( كبستين) أي مكثفة أو ممددة ببخار الماء قليلاً، ما عدا ذلك هناك كأس الماء المصاحب للفنجان، مجاني، وتستطيع أن تطلب منه ما تشاء. غالباً ما يقف أبو الخير أو نمر قرب ماكينة الاسبريسو، على الطرف الآخر من المنصة حيث يجلس شاب لا يتكلم أبداً، فقط ينتظر أوامر أبو الخير أو نمر. العينان تراقبان الداخلين من الباب، وقبل أن يستقر أحدهم على الكرسي يكون الفنجان وكأس الماء قد وصلا، دائماً حسبما اعتاد الزبون أن يطلبه. الاستثناءات نادرة تتخلص بـ: زبون جديد، أو تغير مفاجىء في مزاج زبون قديم. الزبون الجديد، الذي لا يعرف القواعد وقائمة المشروبات ذات الطلب الوحيد، يرتبك حين يسأل أبو الخير ردّاً على ابتسامته الرفقة بكلمة “تفضل؟”: كوب ليمون أو عصير، أو حتى كازوز؟ “يوجد فقط قهوة اسبريسو، كبسة أم كبستان؟”.
عائلات تخرج من السينما
“لم يكن الحال على هذا المنوال في السابق” يقول أبو الخير “في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات كنا نقدم الهيطلية، والمثلجات والليموناضة. كان رواد المقهى من العائلات، يخرجون في حفلة التاسعة مساء من سينما اوغاريت القريبة ثم يكملون السهرة في المقهى على فوتويات الجلد التي لم يبق منها إلا الأربعة تلك” مشيراً الى فوتويات كانت أنيقة ومريحة في يوم ما، محشورة في زاوية أخرى من المقهى، وغالباً ما تكون من نصيب محامين أو بعض أصحاب المحلات التجارية المجاورة الذين يفضلون أن يجلسوا في هذا القسم من المقهى. الكتاب والممثلون ومعلمو المدارس يفضلون القسم ذا الواجهة الزجاجية الواسعة المطلة على عيادة سيمونيدس وأزهار “بجك”.
مستودع للأحذية
انتهت حياة مقهى القصر بشكل مفاجىء في أوائل الالفية الجديدة، حين توفي صاحب المقهى وقرر الورثة تقاسم ثمنه، فتحول إلى مستودع للأحذية مهجور، سرعان ما حاول مستثمر آخر إعادته إلى مقهى عصري بديكورات حديثة يصلح للشباب، لكنه لم يفلح في اجتذاب أحد فعاد وأغلق أبوابه، ليتحول من جديد إلى مستودع لا يُعرف ماذا يحتوي، بواجهات مغطاة بألواح كرتونية معتمة وصفحات جرائد.
نمر لم يعد يُرى في أي مكان. أبو الخير تردد قليلاً على مقهى “الموعد” القريب الذي انتقل إليه قسم من رواد مقهى القصر. كان يأتي مرتدياً الطقم الرسمي قديم الطراز، لكن مكوياً بلطف وأناقة، مع قميص تترك ياقته مغلقة الزر الأخير فراغاً يتسع لقبضة يد، لكن هذه المرة بربطة عنق. عيناه التائهتان خلف نظارتين سميكتين تتركان انطباعاً حزيناً لدى من كان ينهض ويسلم عليه بحرارة. لكن أبو الخير أيضاً اختفى بعد فترة وجيزة، ولم نعد نسأل أين أراضيه.
رواد مقهى القصر تشتتوا بين مقاهي شارع بارون وشارع القوتلي، ثم بعدها لم يعد ثمة مقاه في المنطقة التي خربتها قذائف ومتفجرات، ثم بعدها لم يعد ثمة من مدينة، ثم بعدها لم يعد ثمة من بلد.
عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة.