أميركا قتلت “أحرار الشام”؟
في اليوم التالي لمقتل قادة تنظيم أحرار الشام في قرية رام حمدان، التابعة لناحية معرة مصرين في محافظة إدلب، أقامت الحكومة التركية صلاة الغائب على أرواحهم في جامع الفاتح في إسطنبول. ومع ذلك، ذهب محللون، خصوصا الفيسبوكيون، إلى أن تركيا هي التي قتلتهم، وتمشي، الآن، في جنازتهم، من دون أن يُبَيِّنَ لنا هؤلاء الفالحون ما الأسباب التي تجعل دولة، مثل تركيا، تقتل قادة تنظيم هم، في الأساس، محسوبون عليها.
محللون استراتيجيون آخرون أكدوا أن النظام السوري هو الذي اخترق تنظيمهم وقتلهم، وفريق ثالثٌ جزم أن أميركا هي التي قتلتهم، باعتبار أنها تصنف أعداءها الإرهابيين في سورية ضمن ثلاث مراتب: الدولة الإسلامية “داعش”، جبهة النصرة، أحرار الشام. وهذا تحليل قدّمه رامي عبد الرحمن رئيس المرصد السوري لقناة العربية، صبيحة 23 من سبتمبر/أيلول الجاري، في أول ظهور له مع بدء الضربات العسكرية للتحالف الدولي على داعش في سورية، وضَرَب مثلاً على بدء أميركا الحرب ضد التنظيمات الثلاثة بقتل 42 قيادياً من أحرار الشام قبل حوالي أسبوعين. ما يعني، بحسب رامي عبد الرحمن، أن أميركا بدأت محاربة أعدائها ضمن ترتيب للأولويات معكوس.
فريق رابع من المحللين يقول إن داعش هو الذي قتل قادة أحرار الشام، باعتبار أنه الأكثر مقدرة من أميركا والنظام السوري على التغلغل في صفوفهم، بسبب علاقة القربى الأيديولوجية بينهما، بدليل سوابق لداعش، إذ اعتدى، غير مرة، على قوافل عسكرية للأحرار، واستولى على أسلحتهم، وبضمنها الثقيلة، وصادر ذخائرهم بطريقة “التشليح”، حتى اتَّهَمَ متابعون “الأحرارَ” بأنهم يتخلون عن أسلحتهم ومواقعهم، عامدين متعمدين، لداعش. وليس هذا الزعمَ مستبعداً على نحو نهائي، بسبب علاقة القرابة الأيديولوجية المذكورة إياها.
لم يأتِ أحدٌ من المحللين، في حدود متابعاتي، على ذكر السبب الأكثر قرباً من العقل والمنطق، وأدى إلى مقتل قادة أحرار الشام، وهو، كما رشح عن تحقيقات التنظيم نفسه، اللامبالاة والاستهتار اللذان اعتادت عليهما معظم الفصائل العسكرية التي تحارب نظام الأسد، فالمقر الذي وقع التفجير فيه مستودعان، أحدهما مكتظ بأسلحة ومواد خام تُستخدم في تصنيع العبوات الناسفة والقذائف والحشوات، بينما اجتمع القادة (ومن عادتهم أن يجتمعوا) في المستودع الثاني، وقد سبب هذا الإهمال الانفجار الكبير الذي أدى إلى مقتل الجميع في المستودعين.
السوريون معتادون، إلى حدود الإدمان، على طريقة الإعلام السوري الأزلي في التعاطي مع الأحداث، فهو يُجرِّمُ مَن يعادي سياسته ونهجَه، وينعته بألفاظ شديدة الانحطاط، تصل، أحياناً، إلى حدود إلصاق الخيانة الوطنية العظمى بمن يعارضه. ومثالاً، ابتكر إعلامي سوري، مع بدايات الثورة، فكرة غريبة، سرعان ما تبناها الإعلام السوري برمته، واعتبرها نوعاً من البديهيات، وهي أن ثوار حي بابا عمرو في حمص رفعوا العلم الإسرائيلي، بقصد أن يعلنوا عن الهوية الحقيقية لثورتهم، ويثبتوا للقاصي والداني أنهم ليسوا أصحاب حقوق مشروعة، وإنما أناسٌ متآمرونلم يخطر ببال أحد من فريق النظام الإعلامي، يومئذ، أن يستغفر ربه جراء هذه التهمة الحقيرة التي كيلت لأهالي بابا عمرو الغلبانين، ولم يذكر أحد من الإعلاميين أو المحللين الاستراتيجيين أن رفع العلم الإسرائيلي قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً. ولم يُشِرْ أحد إلى أن هذا الأمر يتناقض مع حالة العداء التاريخية التي يكنها الشعب السوري، بمختلف أطيافه، لإسرائيل. بل تَحَوَّلَ هؤلاء الإعلاميون إلى ما يشبه “المذهبجية” الذين يقفون وراء المطرب في غناء الطقطوقات التي يتم فيها ترديد لازمة غنائية، ليقولوا إن المعارضة السورية دخلت في مرحلة جديدة، هي العمالة العلنية لإسرائيل، بعد أن أمضت عمرها في العمالة السرية!
أذكر أن ندوةً سياسيةً كانت تُبثُّ على الفضائية السورية، وفجأة أعلن المذيع عن انضمام محلل استراتيجي كبير إلى الندوة، هو المحلل (طاء ألف)، وبمجرد ما جلس، ووضعت له لواقط الصوت، قال، موجهاً الكلام إلى القيادة التاريخية لسورية، ما معناه: لم يبق لكم حجة في التساهل مع الشعب السوري الإرهابي، صَمَّغْتُم آذاننا وأنتم تتحدثون عن الشعب، ومطالب الشعب، وحرية الشعب، وإنه لا يجوز الخلط بين الإرهابيين وأبناء الشعب! تفرجوا على هذا الشعب المتآمر الخائن الذي يرفع علم إسرائيل علناً، وفي وضح النهار!!.. اقتلوهم اقتلوهم، فوالله إن لم تقتلوهم، لن نسامحكم، ولن يسامحكم التاريخ.
ما أردتُ قوله، في المحصلة، هو إن الثورة الحقيقية هي التي تشمل بالإصلاح جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وإنه لا يجوز الخروج من الإعلام البعثي الأسدي، ذي الثوابت واللون الواحد والجوقة والكورس والخطوط الحمر، إلى إعلام يلقي الكلام على عواهنه، ويبني على الشبهات نتائج ضارة، لأنه لا ينفعنا شيء سوى قول الحقيقة، ومعرفة الحقيقة.
لا أجزم بأن الأحرار قتلوا بسبب الإهمال واللامبالاة، إذا لا يجوز الجزم بشيء كهذا ضمن هذه المعطيات الغامضة، ولكن، لنقل إنه من أهم الاحتمالات وجرى تغييبه. لماذا؟
عن العربي الجديد
التعليقات مغلقة.