تصبحين على خير يا دمشق!/شوقي بغدادي

30

23qpt998أكتب هذه الكلمات وأنا جالس في شرفة داري المطلة على الشرق أشاهد بكثير من القلق مدينتي خشية أن تحترق كما احترقت روما ذات يوم على يد نيرون، وها قد رحل نيرون ولم يبق منه سوى ذكراه المقيتة وبقيت روما بعد أن تجدّدت. الوقت هو أول الليل الزاخر بأصداء الأصوات المدوية النائية والآنية من جهة الضاحية «جوبر»..
ماذا يحدث هناك في هذا الليل المضيء ليس بالنجوم وقمر «ذي القعدة» بل بومضات الصواريخ والقنابل التي تزاحم نجوم الليل في إخراج هذه المسرحية المرعبة التي تحوّلت إلى واقع مخيف.
أفكر في الوقت نفسه بالإحتفال الذي سيقام بعد أيام قليلة في قاعة المكتبة الوطنية الكبرى إحياءً لذكرى الشاعر سليمان العيسى بمناسبة مرور عام على وفاته. أفكر في هذا الإحتفال الذي كنت أتصور أنني سأشارك فيه بقصيدة تليق بمقام الشاعر الراحل بعد أن اتصل بي أحد الأصدقاء ولا داعٍ لذكر إسمه هنا سوى أنه شَغل منصب الوزير مرتين اتصل بي هاتفيا وأخبرني أنه مكلّف بأخذ موافقتي على الإشتراك في ذلك الإحتفال ووافقت بالطبع لأن علاقتي بالشاعر الشهير سليمان العيسى كانت دوماً مثالاً للمودة والإحترام المتبادل، غير أنني فوجئت حين اتصلتُ بالسيدة الدكتورة دولت أبيض زوجة الشاعر الراحل أسألها عن المكان الذي سيقام فيه الإحتفال وعن وقته ولم أكن بعد أعرف عنه سوى موعده، فإذا بي أفاجأ بجواب السيدة بعد أن أخبرتها أنه يشرّفني أن أشارك في هذه الذكرى فإذا بها تقول لي أن اسمي غير وارد في خطباء الحفل وأنها تستغرب موافقتي على أمرٍ لا تعلم عنه شيئاً مع أن الصديق المذكور آنفاً أخبرني أنه قام بمهمة الإتصال بي بتكليف من اللجنة المكلّفة بتنظيم الإحتفال في وزارة الثقافة وأن الدكتورة في الآداب «زوجة الشاعر الراحل هي الكلّ بالكلّ على حد تعبير الوزير السابق الصديق الذي اتصل بي، فكيف حدث ذلك؟.. ومن هو المسؤول فعلاً عن هذا الإلتباس؟ هل هي مراجع أخرى من خارج وزارة الثقافة أم أن المسألة تمت دون تدخل أحد وأن اللجنة المشرفة كانت وحدها التي قررت ذلك اختصاراً للوقت في هذه الأيام العصيبة فرأت الإكتفاء بثلاثة أو أربعة متكلمين وأن لا مكان لأي شاعر في هذا الموضوع!..
لا أدري لماذا لم يقنعني جواب الست دولت أبيض وما زلت آسفاً على ما حدث وما عساي الآن أصنع بالقصيدة التي أنجزتها بشغفٍ واضح والتي أقول في مطلعها:
كنتُ أسرجتُ للرحيل حصاني
من زمانٍ فما الذي أبقاني؟!.
الثمانون جِزْتُها، وزهيرٌ
بات خلفي فمن رآه رآني
متأثراً بتقدمي في السنّ وعدم موتي حتى الآن بعد رحيل معظم أترابي من أبناء جيلي من الأصحاب والأصدقاء!..
كنت أشاهد ما تسمح به المسافة التي تفصلني عن قلب المدينة وأنا أكاد أقول لها ما قلته في قصيدتي الخائبة:
ألأنّ العنفَ استحال اعتياداً في جنون الأخبار والحرمان
أم لأن الكُرْه استوى فوق عرشٍ من رمادٍ ومن لظىً ودخانِ
أم لأن الرؤيا سوى ما نراهُ والزمان الجديد غير زماني
ها قد ارتفع قمر «ذي القعدة» فوق رأسي الآن معلناً اقتراب موعد عيد الأضحى المبارك وسط القذف والقصف والحرائق كي أفهم أخيراً ويفهم الجميع أن لا مكان لأمثالي في هذا الزمان الجديد ولا للشِعر حتى في الإحتفالات التي تقام لإحياء ذكرى الشعراء الراحلين.
الله.. الله يا دمشق على هذا الزمان!. لقد تأخّر الوقت وانتصف الليل الزاخر بالأصوات النائية المخيفة.. وآن لنا أن ندسّ أجسادنا الخامدة في فراشنا ونستدرَ نوماً لا يستجيب لنا بسهولة..
تصبحين على خير يا دمشق!..

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.