قلوبٌ مهشّمة كالجبس
طه خليل
كان ذلك قبل سنوات كثيرة، لم يكن الهواء قد مرّ بحقول الروح بعد، ولم تكد سنونواتها تغادر العش الصغير، لم تنفتح المراعي التي في العيون للغزالات الطريات، المائلات على السهول الشفيفة، لم تكن البروق التي كانت تشق خدود الأرض لتمد منها بياض الفطور بعد مطر رذاذ إلا إيذانا ببدء موسم آخر كما لو أنه موسم الهليون الذي تتبارى فتيات قريتنا على جمعه من حقول الآخرين، لم يكن هليونا بل كان شبيهه، نبات شوكي كنا نأكل ساقه مقليا بالبيض أو مغليا، ويسمونه ” كرنك ” kereng.
كنت المطر الذي يؤجله الغيم لأراض غير معروفة، والنباتات التي تيبسه فتيات قريتنا على السطوح، لتهرشنه عصفا بأيديهن ثم يضعنه في تمائم صغيرة يتطيبن به أيام الأعراس والأعياد القليلة التي كانت تمر بتلك القرية البعيدة، القرية التي كانت بكل ترابها وغبارها وأكباشها وديكتها ودجاجها منقسمة على طرفين، طرف يؤازر الحكومة بدون سبب، والآخر يعادي المؤازرين دونما سبب أيضا، كان حسبهم من الحياة أن يكرهوا بعضهم كثيرا، ويؤلبوا الصغار ضد بعضهم بعضا، فكبرنا ولم نهتم بتويجات قلوبنا التي كانت تتفتح في الليل وتنغلق في النهار، كالوردة التي يسمونها عندنا ” كولا عجما ” وبالعربية يسمونها ” المستحية ” أما لماذا كولا عجما أي : وردة العجم، فتلك قصة أخرى لها علاقة بالحب وقصص العشق بين الشعوب المتجاورة.
كانوا يسرّعون أعمارنا، ويؤجلون قلوبنا، إن ضحكنا مرة، قالوا لنا زاجرين: عيب عليكم أنتم رجال وتضحكون، وبالطبع كنا وكان الجميع يعرف أننا لم نكن رجالا ولا أشباه رجال، وأدركنا أن الضحك عيب مثل العيوب الكثيرة: كالسرقة وشتم الكبار وتحطيم نوافذ الجيران، كان العيب يلاحقنا أينما ذهبنا، في البيت، في المدرسة، وفي حقول البطيخ كذلك، فكبرنا متجهمين، عبوسين، يقطر الغضب والقحط والقهر والغضب من سحناتنا، كنا نسحب سكاكين الكباس بلمح البصر، لنضرب من يواجهنا، وإن لم نجد من يقف بوجهنا، كنا نطعن الهواء الذي يهب من بعيد، ليتوقف عن نقل حبات طلعنا وتلقيح أزاهير الحقول القريبة.
كل من كان يلتقينا يلوح بنا كخرقة، يدور حول نفسه مرات ثم يرمينا من الأعلى على شبح هناك، أي شبح كان، المهم أن يرمى بنا من الأعلى، لنسقط ويتكسر زجاج روحنا وإلى الأبد.
تزوج معظمنا وهو لم يبلغ العشرين من العمر، جاؤوا لدينو بعروس إلى البيت وهو لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، كنا نضحك عليه في غيابه، ونحسده أحيانا، دينو عرف متعة النبات قبلنا وعليه أن يحكي لنا ما يعيشه، كان دينو يكبر يوما بعد يوم؛ لم تمض على زواجه ستة أشهر حتى صار دينو يقاطع تجمعاتنا على البيادر، وراح يجلس مع الرجال الكبار في المضافات، وهكذا فقدنا صديقا كان الأسرع بيننا في سرقة الجبس من حقل العجوز حمزو، كان دينو يدخل الحقل من جهة الوادي، وكنا نضع أيدينا في جيوبنا ونتمشى بالقرب من بيت العجوز حمزو، احتراسا ليقظة مفاجئة منه, وعندما كان دينو ينقل ما يستطيع إليه سبيلا من الجبس إلى الوادي كان يضع أصبعيه في فمه ليطوي لسانه ويصفر لنا صفيرا متقطعا كإشارة إلى أن المهمة انتهت، فنترك بيت العجوز ونلحق بدينو الذي كان قد فرغ للتو من مسح آثار أقدامه الحافية على تراب الطريق المحاذي لحقل العجوز، وحيلتنا التي كانت تدوخ العجوز حمزو هي ليست في مسح آثار أقدامنا بل في ترك أثر آخر، فقد سرقنا حذاء أبي امينو الضخم، وكان يرتديه أحدنا ليقطع به الطريق الترابي المؤدي إلى الحقل جيئة وذهابا، كنا نبتعد بعد ذلك ليخبر العجوز حمزو بعد أن يرى الأثر الداخل الى حقله، إن هناك شخصا كبيرا في السن قد عبث بحقله وسرق منه أفضل جبساته.
كنا كبارا إذا .. كبارا ونسرق الجبس من الحقول، ونسرق ورق السجائر من علب آباءنا المعدنية المليئة بالتبغ المهرب إلينا من فوق الخط ــ هناك سكة حديد تفصل بين سوريا وتركيا ونحن نسمي الدولة المجاورة لنا في الشمال: فوق الخط بدلا من تركيا ــ عن طريق أخوالنا أو أعمامنا الذين ظلوا هناك خلف الأسلاك الشائكة بعد أن ولدت الدول وسوروا حدودهم ، ورفعوا أعلامهم الوطنية.
كبرنا –إذاً- ولم نتذكر من الطفولة إلا سكاكين مجلخة، ومقاليع، وجبس مهشم على أعمارنا ومبارزة الأكباش، وتخريب أعشاش الصعوات، وسحب أفراخ عصافير الدوري من أعشاشها ليلا وهي لم تفتح عينيها بعد، أما دأبنا الأشهى فكان صيد العقارب وجمعها في قناني زجاجية لتلدغ بعضها وتتمدد ولا يبقى في النهاية منها إلا الأقوى، الأقوى الذي تحداه ابن عمي يوما بأصبعه فلدغه، وما كان من أبيه إلا إن قطع أصبع ابنه بالفأس منعا لانتشار السم، وليعش محمودي بقيه عمره بتسعة أصابع في يديه.
كان كل منا ينقصه شيء أو عضو في جسده.. كانت الزوائد كثيرة كما كنا نعتقد، والمهم أن الكبار لم يقطعوا ألسنتنا التي كانوا يهددوننا بها ليلا نهارا.
هل ترك لنا هؤلاء فرصة لنحب..؟
بعد ذلك أرسلونا لدمشق ، لندرس فيها في الجامعات، ربما ليفتخروا بنا من جديد و كرجال منهزمين.. وذهبنا إلى دمشق… وبصعوبة تفتحت وريقاتنا.. بل بعد عشرين سنة من الحصار.. والدعارات السياسية التي حاول أن يقودنا إليها رجال آخرون بياقات جديدة وفلتات عسكرية تفوح منها روائح الثورة المنتظرة، بعد أن أشبعونا أحلاما بدول حمراء وخضراء وكما نشتهي، لكننا وبصعوبة أفلتنا رقابنا من هؤلاء..وعدنا لقلوبنا من جديد ، لكن هل أحببنا حقا..؟
نعم لقد أحببنا كثيرا، ونحن الوحيدون و الوحيدين على الأرض من يتقن الحب بعنف.
التعليقات مغلقة.