كيف سيكون العالم بعد الجائحة؟
لن يعود عالمنا بعد جائحة فيروس «كورونا»، التي ستخمد موجتها عاجلاً أو آجلاً، إلى ما كان عليه من قبلها. هذا الاستنتاج يمكن الوصول إليه من خلال تحليل التغييرات العميقة التي تحدث اليوم في جميع أنحاء العالم. من الواضح أن تأثير هذه الجائحة، التي أصابت اقتصادات البلدان وصحة شعوبها وحياتهم الاجتماعية وحتى النظام العالمي نفسه، سيكون طويل الأجل.
إحدى أهم عواقب هذا المرض، هي التغيير الجذري في النظام العالمي. لقد عبر عن ذلك ويليام بيرنز، رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في قوله إن «النظام الدولي الليبرالي سيصبح أقل ليبرالية وأقل نظاماً». قد يكون تراجع دور الولايات المتحدة هو إحدى خصائص العالم الجديد، مع أن هذا التراجع قد بدأ بالفعل اليوم. وفقا لنتالي توتشي، مديرة المعهد الإيطالي للعلاقات الدولية في روما، فإن انفجار الجائحة حدث بالضبط عندما وصلت هيمنة الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة إلى نهاية لا يمكن إنكارها. دول الشرق الأوسط ستشارك في عملية تشكيل هذا العالم الجديد المتعدد الأقطاب، الذي قد يكون فيه المزيد من الأنانية الوطنية، والحمائية التجارية، والقيود والسيطرة على حركة الناس. بالطبع، لا يمكن إيقاف العولمة، لكن يمكن إدخالها في إطار ضيق. لقد ظهرت في هذا الصدد نكتة حزينة تقول: «لكي نتمكن جميعاً من مواجهة الوباء، دعونا معاً نبتعد بعضنا عن بعض».
من الواضح، أن النظام الدولي الجديد سيكون متعدد الأقطاب، وستكون الصين بقوتها المتسارعة بالنمو والتي لا يمكن إنكارها هي التحدي الرئيسي لواشنطن. أما الاقتصادات النامية الأخرى، فسيتعزز موقعها. لقد استعرضت الصين، على الرغم من أن الركود الاقتصادي قد أصابها مثلما أصاب باقي الدول، قدرتها الاستثنائية خلال الجائحة على إعادة توجيه شركاتها بسرعة عن طريق تحويلها إلى إنتاج أجهزة التنفس، وعدد هائل من الأقنعة، والألبسة الواقية، وغيرها من معدات الوقاية، وهو ما لم تتمكن البلدان الأخرى من القيام به، حيث باتت الصين تقدم لها المساعدة. بالمناسبة، روسيا أيضاً بدأت في تقديم المساعدة، بما في ذلك للدول المتقدمة مثل إيطاليا. الصين بدورها، أيضاً، أرسلت قبل بضعة أيام مجموعة من الأطباء المؤهلين تأهيلاً عالياً إلى روسيا للمساعدة في مكافحة «كورونا». لقد فاجأت الصين الجميع بتمكنها، بسرعة نسبية، من لجم انتشار الفيروس، على الرغم من أنه لا يزال لا يمكن اعتباره انتصاراً نهائياً.
يعتقد أنه بعد نهاية الوباء سيؤخذ في الحسبان أكثر من ذي قبل في الشرق الأوسط، دور بكين المتزايد في الشؤون العالمية. بيد أنه يبقى من غير الواضح متى ستتمكن الصين من استئناف تنفيذ مبادراتها العالمية التي تأثرت بالجائحة، بما فيها مشروع «حزام واحد – طريق واحد» للنقل والاقتصاد. بالطبع، من السابق لأوانه الحديث عن الصين كمرشح للعب دور الزعيم في العالم، على نفس الشكل التقليدي الذي يراه عدد كبير من الدول بما في ذلك حكومات الشرق الأوسط لدور الولايات المتحدة، هذا في حال كان ممكناً قيادة العالم من قبل دولة واحدة في الظروف الجديدة لعالم متعدد الأقطاب.
في الاتحاد الأوروبي وروسيا، شعور بالقلق إزاء تفاقم الأزمة في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. الحرب التجارية لم تنتهِ، ولا تزال مستمرة هجمات واشنطن الحادة على بكين لأسباب مختلفة، ويثير لدى الإدارة الصينية ردة فعل حادة، لومها على انتشار الوباء واستخدام الرئيس الأميركي لتعبير «فيروس ووهان» بدلاً من «فيروس كورونا».
تعرضت بكين لانتقادات حادة من قبل الحكومات الغربية عندما كانت أول من اتخذ تدابير قاسية للغاية في حملة مكافحة الجائحة، بما في ذلك الحجر الصحي الصارم، وكذلك إنزال أقسى العقوبات ضد المخالفين الخبيثين للنظام، وصولاً إلى عقوبة الإعدام. ومع ذلك، أدى تأخر دول أوروبية كبرى في اتخاذ أي تدابير تقييدية إلى نتائج مأساوية في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، والتي تعاملت باستهتار مع التهديد الجديد لها وللبشرية جمعاء. لقد كان الروس العائدون من هذه البلدان بالذات هم أحد مصادر الإصابة في الأسابيع الأولى للوباء وتفشي المرض في روسيا.
كما هو معلوم، اتخذت روسيا بسرعة إجراءات تقييدية، وبالتحديد من خلال نظام الحجر الصحي لأولئك الذين كانوا على اتصال مع المرضى أو عادوا من بلدان تشكل خطراً خاصاً من حيث العدوى المحتملة، ونظام عزل ذاتي لكل شخص آخر في معظم كياناتها. توجب على الناس البقاء في المنزل، تم إيقاف عمل جميع الشركات، باستثناء الضرورية منها، حتى نهاية أبريل (نيسان)، وأغلقت الخدمات المختلفة، ومرافق الترفيه، والعمل عن بعد والخروج فقط في حالة الطوارئ – إلى أقرب محل للمواد الغذائية، أو التجول مع الكلاب (على مسافة لا تزيد على مائة متر عن المنزل)…. إلخ. يقدم متطوعون المساعدة في شراء المواد الغذائية للمواطنين المسنين الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً، بالإضافة إلى ذلك، يمكن شراء السلع عبر الإنترنت أو عبر الهاتف مع توصيلها إلى العنوان المطلوب. في الوقت نفسه، اعتمدت السلطات حتى الآن فيما يتعلق بالالتزام بالنظام، على حكمة ووعي المواطنين. أما المخالفون، فيتم إما فقط تحذيرهم أو فرض غرامات تافهة عليهم، باستثناء أولئك الذين يؤدي قيامهم باتصال ممنوع مع الناس إلى إصابة الآخرين بفيروس «كورونا»، هؤلاء يواجهون عقوبات أكثر صرامة وصولاً إلى الحكم عليهم بالسجن. لقد اتخذت السلطات الروسية تدابير غير مسبوقة لدعم الفئات الأكثر ضعفاً من السكان، بما في ذلك للذين فقدوا وظائفهم وللأسر الكبيرة وغيرهم، وهو ما تفضل وسائل الإعلام الغربية عدم ملاحظته. كما أن السلطات كانت قد اتخذت أيضاً قرارات بتخصيص رواتب إضافية كبيرة لجميع العاملين في المجال الطبي.
بعبارة أخرى، تم في روسيا استخدام استراتيجية التباعد الاجتماعي في مرحلة مبكرة، التي تبنتها معظم الدول بمرور الوقت. أما الصرامة الصينية، لم تكن ملائمة تماماً لروسيا، ولا للأوروبيين كذلك. الشيء الوحيد الذي ترتب على السلطات البلدية في موسكو القيام به من أجل وقف الانتهاكات العديدة لنظام العزل الذاتي في المدينة، حيث توجد معظم حالات الإصابة في البلاد، هو إدخال تصاريح رقمية على مراحل بدأت من يوم الاثنين الموافق 13 أبريل، لأولئك الذين لديهم الحق في التنقل ضمن المدينة ولا يزالون على رأس عملهم، على سبيل المثال: للأطباء، والمسؤولين الحكوميين، وأصحاب متاجر المواد الغذائية والعاملين فيها وما إلى ذلك. أثار هذا الإجراء الاضطراري انتقادات من قبل منظمات حقوق الإنسان الدولية، التي اعتبرته انتهاكاً لحقوق الإنسان. في الوقت نفسه، فوّض الرئيس الروسي رؤساء الأقاليم الروسية حق تحديد مجموعة الإجراءات اللازمة بأنفسهم لنجاح مكافحة فيروس «كورونا»، لكن بشرط مراعاة الامتثال للقوانين الفيدرالية.
إن استراتيجية التباعد الاجتماعي هذه، التي أصبحت السلاح الرئيسي في مكافحة الجائحة، ستكون لها عواقب اجتماعية طويلة الأمد من الضروري التغلب عليها. من المحتمل أن تختفي بعض التقاليد العرفية في العديد من المجتمعات، على سبيل المثال: التقبيل والمعانقة عند اللقاء. سيبقى الناس لفترة طويلة بعد الانتصار على الفيروس، والذي سيحدث بعد بدء إنتاج اللقاحات والتطعيمات الجماعية، خائفين من عودة الوباء، ربما في شكل فيروس جديد. ليس من المستبعد أن يصبح التواصل عن بعد أمراً اعتيادياً.
أظهرت الجائحة عدم استعداد النظام الصحي في العديد من الدول للاستجابة المناسبة للوباء. لذلك، يمكن توقع أن العديد من البلدان المتقدمة ستضطر إلى اتخاذ تدابير لتغيير سياستها في المجال الصحي. على وجه الخصوص، تدعو الولايات المتحدة إلى مثل هذه الإجراءات، حيث لم يثبت نظام حماية صحة المواطنين فيها أثناء الجائحة أفضليته، خاصة على خلفية دول ناجحة مثل ألمانيا. يخشى خبراء روس من أن تجتاح موجة الوباء أفريقيا، حيث سيكون من الصعب للغاية إيقافها. بطبيعة الحال،
يمكن أن تؤثر هذه الموجة عبر شمال أفريقيا على الشرق الأوسط بأكمله. ستتطلب مخيمات اللاجئين اهتماماً خاصاً لحماية الناس من تفشي المرض.
إن الجانب الحساس للغاية لحملة التباعد الاجتماعي هو كل ما يتعلق بالحياة الدينية. وما يدعو للاطمئنان التقييم الصحيح الذي أبداه زعماء الطوائف ورؤساء الدول للخطر الذي تحمله أي تجمعات جماهيرية للناس في الوقت الحالي، واتخاذهم لتدابير جريئة للحد منها في هذا المجال. إن خطر عودة الوباء الذي يخيّم علينا دائماً سيجعلنا على استعداد للعودة إلى القيود في أي وقت.
أخيراً، من الواضح أن أهم مجال لعمل حكومات العالم في فترة ما بعد الوباء سيكون استعادة الاقتصاد، بما في ذلك اقتصاد القطاعات الأكثر تضرراً. على سبيل المثال، السياحة والفنادق، وصناعة الطيران وغيرها.
نقلا عن الشرق الأوسط
التعليقات مغلقة.