بوتين وأردوغان وخامنئي والثأر من التاريخ
غسان شربل
يسكبُ التاريخ سماً في عروق الدول التي تتهمه بمعاقبتها. الدول التي قلَّصتِ الحروب والأحداث أحجامَها ودفعتها إلى العيش في خرائط أقل بكثير من تلك التي كانت في عصورها الذهبية. وتتكدَّس المرارات في روح الدول التي تنظر إلى خرائطها الجديدة بوصفها سجوناً تشبه الملابس الضيقة. تعلَّم الأوروبيون الدرسَ من حربين عالميتين أدمتا القارة القديمة. قرروا الإقامة في منازلهم الجديدة، والانهماك بتحسين شروط حياة ساكنيها. لم يعد هناك مكان للجيوش المنفلتة من عقالها التي تنغمس في أراضي الآخرين لتفكيكها واستعادة أجزاء منها. البديل هو التنافس بالنموذج الناجح والتقدم الاقتصادي والإشعاع الثقافي.
انحسار وطأة التاريخ في أوروبا لا يعني تراجعها في كل مكان. جمل قصيرة تكفي أحياناً لكشف شهيات ثأر كبيرة.
سأل صحافي الرئيس فلاديمير بوتين عن الحدث التاريخي الذي شهدته روسيا، وكان يودُّ تغييره لو كان قادراً، فسارع إلى الرد: «انهيار الاتحاد السوفياتي». وشدد بوتين في أكثر من مناسبة على أنَّ انهيار الاتحاد السوفياتي هو «أكبر كارثة جيوسياسية» في القرن العشرين. ولمَّح إلى أنه لم ينسَ السنوات التي أعقبت الانهيار، حين «لم يكن أحد ينصت إلى موسكو».
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ساد اعتقاد أن روسيا ستنشغل لعقود بمحاولة تضميد جروحها بعد خروجها من الركام السوفياتي. كان الاتحاد الروسي نفسه مهدداً، وضباط «الجيش الأحمر» الذين هاجمهم الفقر يبيعون بزاتهم في شوارع موسكو بحفنة من الدولارات. وكان على الرئيس بوريس يلتسين أن يتقبل نصائح بعض السفراء و«توجيهاتهم» أملاً بالعثور على مساعدات لإخراج بلاده من الهاوية التي تردت فيها. وثمة من رأى أن روسيا ستستقيل من ماضيها، ومن الهدير الذي يسري في عروقها، وستقلّص أحلامها لتتفرغ لإعادة الاستقرار، واعتماد الوصفات الأوروبية في الاقتصاد والسياسة.
لم يخطر ببال كثيرين أنَّ التاريخ كبير المحرضين. عاين بوتين، ابن المؤسسة الأمنية، الترنحَ الروسي و«غطرسة» حلف شمال الأطلسي وبدعة الثورات الملونة، وراح يبلور مشروعاً للثأر. باشر بإعادة هيبة الكرملين في «القارة الروسية»، وأخضع الرؤوس الحامية في الجمهوريات. وبعد ذلك، انطلق لإعادة هيبة روسيا في العالم، مرمماً صورة الجيش الذي يتكئ على ترسانة نووية هائلة، ومباهياً بامتلاكه أسلحة جديدة «لا تقهر».
ولا مبالغة في القول إنَّ بوتين أرغم العالم على العودة إلى الإنصات إلى روسيا. اعتمد دبلوماسية مشاكسة نشطة في الأزمات، وحرك سيف الفيتو في مجلس الأمن مرات عدة. استعاد القرم، وزعزع استقرار أوكرانيا، وسدَّد ضربة استثنائية حين أفاقَ العالم على القوات الروسية تنقذ نظام الرئيس بشار الأسد من السقوط على أيدي المعارضين والمقاتلين الجوالين المصنفين في خانة الإرهاب. ذهب نظام بوتين أبعد من ذلك حين تدخل في الانتخابات الأميركية وغيرها.
يدير بوتين اليوم على أرض سوريا لعبة بالغة التعقيد تجعله ممراً إلزامياً في أي محاولة لصناعة السلام في هذا البلد. وأظهرت الفترة الأخيرة أن هناك حاجة إسرائيلية وإيرانية وتركية ودولية للخيط الروسي الذي ينظم حدود الحروب ومناطق النفوذ، فمن دونه سينفتح الجحيم السوري على مصراعيه.
على النار السورية أنضج بوتين عملية تطويع الدور التركي. سمح لجيش أردوغان بالدخول لتأديب الأكراد، لكن بعد أن سلمت أنقرة ببقاء الأسد، وبعد أن أدخلت إلى بيتها الأطلسي الصواريخ الروسية. وفي بدايات السنة الجديدة، سيحل بوتين ضيفاً على أردوغان، بعدما تأكد أن الغاز الروسي سيتدفق إلى تركيا، ومنها إلى مناطق في أوروبا.
أردوغان الذي أطلَّ على الساحة الإقليمية والدولية في 2003، أي بعد ثلاث سنوات من إطلالة بوتين، ينتمي إلى فئة المجروحين من التاريخ. يقلب صفحات السلطنة العثمانية، فيرجع بانطباع أن الخريطة التركية ثوب ضيق وعقاب شديد. ساد الاعتقاد في البداية أنه سيروج لنموذج إسلامي معتدل ومزدهر، وأنه سيوظف موقع بلاده لتكون جسراً بين آسيا وأوروبا. وصدّق كثيرون حديث وزير خارجيته أحمد داود أوغلو عن «تصفير المشكلات»، لكن حسابات أردوغان بدت أبعد من ذلك وأصعب.
رأى أردوغان في «الربيع العربي» فرصة ذهبية لا تعوَّض. أسكرته رؤية مصر «الإخوانية»، لكنها لم تعمر طويلاً. فتح حدود بلاده أمام المقاتلين الجوالين الراغبين في «الجهاد» في سوريا، لكن القيصر أحبط أحلامه، ولم يسمح له لاحقاً بأكثر من تقليم أحلام الأكراد وأظافرهم.
يتمسك أردوغان بحلم الدولة الكبرى المحلية. لديه قوات في العراق وسوريا وقطر والصومال، فضلاً عن «قبرص التركية»، وكان يحلم بالإقامة في جزيرة سواكن السودانية، لكن إطاحة الرئيس عمر حسن البشير أجهضت حلمه. يستعد الآن لإرسال قوات إلى ليبيا، مؤكداً أنه سيدرس «الخيارات الجوية والبرية والبحرية». موقفه ينذر بتأجيج الصراع المديد في ليبيا. اتفاقه مع حكومة فايز السراج على تحديد مناطق السيادة البحرية يفتح الباب لتصعيد معركة النفط والغاز في المتوسط. تباهى أردوغان بالثأر من التاريخ باتفاق قال إنه «يقلب وضعاً فرضته معاهدة سيفر» التي دقت المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية العثمانية.
جملة تكفي أحياناً لكشف شهيات. فقد اعتبر وزير العلاقات التركية مع جمهورية رابطة الدول المستقلة الناطقة بالتركية أن «على الجمهورية التركية، خليفة الإمبراطورية العثمانية العظيمة، أن تنشئ تحالفاً مع أذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزيستان وتركمانستان، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة حادة مع روسيا». ولم تتأخر موسكو في إبداء قلقها من هذا الكلام.
النظام الإيراني يرفض هو الآخر فكرة العيش في دولة طبيعية ترضخ لأحكام القانون الدولي. مبدأ «تصدير الثورة» المتضمن في الدستور يؤكد النظر إلى الخريطة بوصفها عقاباً. مباهاة جنرالات «الحرس الثوري» بوجود «أربع عواصم عربية تدور في الفلك الإيراني» كثيرة الدلالات. تصميم خامنئي في بداية الأحداث السورية على أن «تكون سوريا كما كانت أو لا تكون لأحد» يؤكد التمسك بفكرة الدولة الكبرى المحلية، تماماً كالإصرار على إدارة بغداد من الخارج.
يبث التاريخ سمومه في عروق الدول التي لم تنجح في ترويض شياطينه. ما أصعب الإقامة قرب المجروحين الواقعين في قبضة أحلام الثأر وأوهام الدور. على المصابين بـ«القدر الجغرافي» أن يتحسسوا دائماً حزام الأمان.
نقلا عن الشرق الأوسط
التعليقات مغلقة.