أحدهم يجلس هناك مثل ندبة هائلة! / كريستين وول

24

08qpt897

 

 

 

 

 

 

 

في التاسع عشر شباط/فبراير من العام 1942 أصدر فرانكلين ديلانو روزفلت الأمر التنفيذي السيىء السمعة الذي يحمل الرقم / 9066 / والذي أدّى إلى حجز 110 آلاف ياباني في معسكرات الاعتقال، الذين شكلوا ما يسمى بالتهديد العسكري، وفي العام 1945 كتب الشاعر (لاوسون فوساو إينادا) قصيدة يشير فيها إلى معسكرات الانتقال المختلفة التي كانت تُسْتَعمَل لاحتواء هؤلاء الناس : وكان عنوان القصيدة (البرجُ المرتَقَب):
في هذه الدنيا
لا وجودَ لنقاط الضوء
لكن هناكَ أشواكٌ منبثقةٌ من الظلام
إبدأ من الولاية الذهبية
من الارتفاعات، واسمِ ذلكَ الموقع ..
أفعى جرسية
على خط الجنوب تنحدرُ إلى المنطقة
إلى أريزونا البيت،
‘حيثُ المحتجزون
نداءاتهم تملأ أنحاء بوستون
استغرق وقتك لتلفّ الطريق
لتجعل نفسك في المنزل
في مستنقعات آركانساس
لكن الآن، أنتَ ضجرٌ من الطريق،
‘إنها بلادٌ كبيرة، تقولُ لنفسك …
تاريخٌ كبير لا يُحتَمَل ..شيءٌ ما مُرْتَقَب
في منتصف صحراء كولورادو ..
سِرْ على مستوى الجبل العالي في وايمونج
ثم انحدر إلى يوتا الجوهرة النفيسة .. قبل أن تجد نفسكَ في شمال كاليفورنيا على الشاطئ المتجمد لبحيرة تولي
أيُّ نوعٍ من الأبراج هذا ؟
أحدهم يجلسُ هناك مثل ندبةِ هائلةٍ ..
منظرٌ طبيعيٌّ هائلٌ، سترى الأسلاك الشائكة الصدئة هناك
عُدْ أدراجكَ وتذكَّر السياج …
إنه هنا يشير إلى البرج، تلك الأبراج التي بنتها الحكومة الأمريكية كمعتقلات وبعثرتها في جميع أنحاء البلاد، بكلمةٍ أخرى، إن حجز الأمريكيين لليابانيين ما كان مجرد حدث عابر في التاريخ الأميركي بل كان تهجيراً إجبارياً هائلاً ومروِّعاً لـ 110 آلاف شخص من بيوتهم. لكي لا يمنع التاريخ من تكرار نفسه، يصوِّر إينادا بطريقة شعريَّة ألم الاحتجاز بعيداً عن الوثائق الحكومية والحسابات المكتوبة التي لا يمكن أن تعبر عن الألم المحيط بالمحتجزين،
إن التعبير عن الألم ليس ممارسة تقليدية وعزيزة كسبها الأمريكيون من اليابان ولا يخدم إعطاء منظوراً فريداً وغنياً بالمعلومات حول حياة المحتجزين اليابانيين بل أنه تعبيرٌ أمريكي من ذوي أصول يابانية عن الظروف المعيشية في المعسكرات الانتقالية التي تخيّمُ عليها غيوم الحزن والابتعاد عن البيت .
لماذا كان يُكتب الشعر الشعبي في معسكرات الاعتقال ؟
إن الشاعرين اليابانيينٍ (جوري وكاي ناكانو) كانا متعلقين بتلك القصائد القصيرة الوافدة من السجون والتي كانت بنظرهما شكلاً مثالياً لتعبير المعتقلين عن عواطفهم المكبوتة حتى في ظل ندرة ورق الكتابة، وناكانو يشير إلى أن القصائد القصيرة كانت تقليداً تعبيرياً من اليابان وشكلاً مريحاً للمعتقلين ذوي الأصول اليابانية، كان الشعر بنظرهم وسيلة هروب، وطريقة للتنفس وانعكاس للبيئة القاسية التي كانوا يعيشونها، وفي تعليق على تجربته الخاصة يصرح : لولا القصيدة لكانت الأفكار والمشاعر مغمورة بالوحل، لكانت بهتت وبشكلٍ تدريجي تبعثرت في وعينا وتلاشت …
أغلب القصائد التي كتبت من قبل المحتجزين كانت قصيرةً جداً، وذلك طبقاً للتقليد الياباني المتمثل بالشكلين الأكثر شعبية وأعني هنا (التانكا والهايكو)، الهايكو ذلك الشكل الشعري الأقصر في العالم الذي كان يستعمل لوصف الطبيعة والتانكا الذي يتحدث عن الطبيعة وما يخلفها من عواطف إنسانيَّة، وبينما يكتب ناكانو (إنه شعر يتيح للقارئ ملكة الإدراك يتابع):
على أية حال الشعراء لم يتقيدوا بهذه الأشكال، حيث يلاحظ يوئيدا ماكوتو بأنه في بدايات القرن العشرين بدأ بعض الشعراء بحركةٍ شعرية حرة الطراز ودعوات لأشكال أكثر حرية من قصائد الهايكو والتانكا، فليس كل الشعر يجب أن يُكْتَبَ على طريقتي الهايكو والتانكا .
وطبقاً للنقاد ومنهم الناقد كريستوفر كازوي إن الهايكو قبل الحرب كُتِبَ في أمريكا من قبل أمريكيين ذوي أصول يابانية بشكل هادئ وباعتقاد الأمل لمستقبل الهايكو في أمريكا، على سبيل المثال هذه القصيدة التي كتبها ريكوجيومو
إن الزهرة صفراء
أراها الآن بشكلٍ واضح
فجرٌ على الحقل الخريفي ..
أو قصيدة زهرة الأقحوان لكاتسوي ماتسودا :
زهرة الإقحوان
طقسٌ لطيف
بي رغبة التحدث للناس …
بالرغم من عدم وجود مؤشرات على أن كل القصائد كتبت في الولايات المتحدة من قبل الأجانب اليابانيين أو الشعراء الأمريكيين – اليابانيين إلا أنه يعرضُ نماذج جيدة للعديد منهم والموضوع، موضوع القصائد، كله يدور حول الزهور، وكل القصائد تعرض هدوءاً ونغمةً هادئة أيضاً وكتب الشعراء بعد هذه الفترة تصويراً لمشاعر اليابانيين وهم سجناء
وفي أول سلسلة من القصائد التي تدور حول عائلة خيالية يابانية تقطن في الولايات المتحدة الأمريكية كتب جيرالدين سي عن كاثي المراهقة في أوائل كانون الاول/ديسمبر من العام 1942 قبل الهجوم على بيرل هاربور :
تفكِّرُ كاثي وهي تنظرُ إلى المرآة
ماذا سألبس
في ليلة عيد الميلاد ؟
روبي الأحمر يوخِزُ
روبٌ يوخزني’
سألبسُ الأحمرَ ….
في هذه القصيدة تصوّرٌ للموقف الخالي من العناية نسبياً عن طريق كشف قلق كاثي على الملابس والأولاد، في عدة أيام،سيكونُ عندها أشياء بالغة الأهمية أكثر بكثير من قلقها حول الملابس، على الرغم من أن العديد من العائلات عانت من تعصبٍّ عنصري وقيود قانونية، إن هؤلاء الشعراء يوضحون أن هذه المشاكل هي نفس المشاكل التي كانوا سيواجهونها فيما بعد .
تبدأ القصيدة بتصوير عواطف الأجانب اليابانيين والأمريكيين اليابانيين عند إعلان طلب تنفيذ القرار رقم / 9066 / الذي طلب احتجاز كل الناس الخطرين من وجهة نظر روزفلت في الساحل الغربي. في قسم من قصيدته عنوان أساطير من المعسكر يقول : الحالة، من الواضح، كان تشويشاً على الأرجح، شوَّش على ناسٍ بسطاءٍ على الأرجح، الذي يفتَرَض ببساطة أنهم كانوا أصدقاءً، الجيران، الزملاء، الشركاء، المرضى، الزبائن،الطلاب، معلمون، ليسوا عزَّل أو أجانب إنما بسطاء على نفس النمط، ناسٌ متواضعونَ دفعوا ضرائبهم،
هذه القصيدة لها نغمة جافة تلمح بغضب ولكن بشكلٍ مهذّب عن قسوة السجن، يعبر عن ناس متواضعين ومواطنين، وكانوا يمتلكون الإيمان والأمل بتحسن الأوضاع في بلادهم، يفكر أحد الأشخاص :
أنا لا أفهم، مطلقاً، لكن يجب علينا أن نذهب لمكان آخر لنخدم، إلى بلادنا، حيث يجب عليهم أن يستجيبوا لطلباتنا،
البحث عن الموضوع يكشف بدهشةٍ المقاومة في سبيل تحقيق مطالبهم عن طريق الاحتجاجات العامة وتظهر القصيدة الموقف الذي أدى إلى هذا الجو العام من الاحتجاجات، أخيراً فإن القصائد حول الإخلاء تُرينا الحزن الذي يمثله هؤلاء الأشخاص الذين تركوا بيوتهم وأُجبروا على بيع كل حاجياتهم إنها قصائد تعكس مشاعر اليابانيين فالعذاب هو الذي أدى إلى كتابة هذه القصيدة
أُوشَكُ على ترك البيت حيثُ كان طفلي سيولَد ….
كم فكروا أين سيدعونَ ذكرياتهم التي محاها السجن، وبشكل خارجي كتابة الشعر في المعتقلات كانت وصفاً ببساطة للشرور التي عاش فيها المعتقلون على الرغم من أن بعض هذه القصائد تعاملت وعالجت موضوعة الطبيعة من صحاري أريزونا إلى آركانساس، في قصيدة غير معنونة يقول شينكاي مانزانار عن صحاري كاليفورنيا :
يغطيها الغبار، مثل دخانٍ أسمر’
مثل عرينٍ مخفيًّ في الصخور المتجمدة،
على مستوى شاهق،ومثل مجموعة ذئاب جائعة،
تكنّس العاصفة على مستوىٍ واطئ، بأنيابً حادة وعارية تصرخُ إلى السماء، قمم الغارديان العالية والهادئة تصرخ …

‘إن الطقس والفصول القاسية كانتا تعتبران قوتان ثابتتان لكتابة القصائد حيث كان على المعتقلين ضرورة مواجهة هذه القسوة كيفما كان، خصوصاً وأن معسكرات الاعتقال كانت واقعة في أراضي قاسية تعاني من طقوس جوية سيئة وباختلافات متطرفة في درجات الحرارة،ليس فقط أن الطقس قاسياً عادة بل أيضاً المنظر الطبيعي كان قبيحاً، وفي قصيدة على شكل التانكا يصف الشاعر يوكاري :
أرض،
حيث لا عشبٌ، ولا أشجار،
ولا زهورٌ بريّةٌ تنمو …
‘الشعراء الأمريكيون، اليابانيون كانوا مستعدين لإعداد قصائد هايكو حول جمال الطبيعة إلا أنهم اصطدموا فقط بالغبار والأسلاك الشائكة .
إن أمور درجات الحرارة العالية والمناخ السيء والطقس الرديء تعود إلى افتقار الملاجئ في الحقيقة إلى درجات الحرارة المناسبة على الأقل للوهلة الأولى وهذه الخاصية جعلت العديد من القصائد مجرد وصف أو تلميح إلى ظروف المعيشة المفزعة بشكلٍ عام،إضافةً إلى وصفهم للغرف التي كانوا يعيشون فيها ضمن المعتقل :
‘الثكنات، تثبت بالكاد، الورقة تغطي الجدران، يفتقر إلى الخط، اللون، مستوى التغذية، اللفت،
يستمر في القصيدة حتى يصل إلى وصف الأثاث :
أسرَّةُ الجيش الفولاذية،
بطانيتان بلون الطين،
أغطية فُرَش،
نحنُ دافئون بفضل حشوة القطنِ السميكة …
شعرٌ قليل يخبرنا هنا عن حقيقة ظروف المعيشة العدائية والمزعجة،
خارج الغرف، الحياة ليست أفضل بكثير، فالشعراء الذين بقوا في المعتقل اعترضوا على الحرَّاس في أغلب الأحيان،على الحمَّامات،ووسائل الأكل،
حيثُ صوَّر الشعراء الحرَّاس عادةٍ كأشخاص باردين وعديمي الإحساس إضافةً إلى الروائح الكريهة المنبعثة من الحمامات وقلة النظافة، أما الأكل وصف على أنه رتيب، في قسم من قصيدة تكاد تكون أشبه بقصة يصفُ فيها شخص وجبة طعام واحدة :
الرز،
عصير الفاكهة،
أتخيَّلُ أمَّاً تُقبلُ بيدها كمشةٌ من الآيس كريم،عيونٌ في الأسفل ..
بهذا الوصف تحدث قليلاً عن الغذاء ويظهر مشاعر النزلاء تجاه الغذاء وذلك فقط في بضعة كلمات،
وفي قصيدة أخرى يقول الشاعر أوزاوا :
أقدامي، آرائي، خدرتان،
من الوقوف في الصفَ طوال النهار لنأَكل ونتغوَّطَ،في هذا الهواء الطلق القذر !!
إنه شطر يظهر الإحباط والشروط المعيشية القذرة، وتصوِّر هذه الأمثلة كم يمكن أن نتعلم من تجارب المعتقلين في معسكرات الانتقال فقط من خلال الشعر البسيط والقصير،
على أيَّة حال كما ذكرنا في وقت سابق إن هذه القصائد كتبت من قبل المعتقلين التي تظهر مظاهر العيش التي كان لا بد عليهم أن يتعاملوا معها رغماً عنهم
ولعلنا سنعثر في القصائد على اعترافات وعواطف قوية جدا تكشف عن التجارب الشنيعة للقرَّاء وما علينا سوى أن نتخيَّل، إن شعر هؤلاء المعتقلين لعب دوراً مثالياً لإبداء العواطف المتطرفة التي كانوا يشعرون بها،
وبذات الوقت كتبت قصائد كانت تعكسُ أملاً، هذا الأمل الذي ساعد النزلاء على تحمُّل هكذا ظروف، وظهر هذا الأمل بادئ ذي بدء على شكل طلبات شكوى للحكومة الأمريكية لأن المعتقلين كان لديهم الأمل والإيمان في أمريكا،بلاد الحريَّة،وكانوا متفائلين بشأن مصيرهم وأنهم سيكون بمقدورهم العودة إلى بيوتهم قريباً .
أساطير من المعسكر … أسطورة الهروب العظيم والتي كتبت من قبل إينادا :
الناس كانوا سلبيين
حتى عندما توقَّف القطار،
في السهول العظيمة حتى عندما كان الجنود يأكلون، لم يهربوا منهم … !
إن هذه القصيدة لم تكن بالضرورة ناتجةً عن الخوف بل أن شكلاً من أشكال الإلتزام بالأمل، وهذا الأمل بانَ مبكراً على بعض النزلاء الذين حاولوا التأقلم مع حالهم العصيبة مع جرعة أملٍ بسيطة، مع أن هذا الأمل بدأ يبهت مع مرور الزمن وهذا بان بوضوح في بعض الأشعار التي كُتِبَت، هناك قصيدة للشاعر ميزوموتو تعكس شجاعة المعتقلين وأملهم طوال تلك السنوات الصعبة :
إذاَ يجب عليك أن تسخَرَ،
إن الفجر يدنو، لقد تعلَّمت الكثير وعانيت من هذه الشجاعة الصامتة،
راهنت، وتأملت في هذا الحجز، ستنال حريتك وتسير جنباً إلى جنب مع اولئك الذين يحتقرون العواصف الغبارية …
هؤلاء الناس الذين عانوا بشجاعةٍ صامتة كانوا يتوقعون عودتهم إلى المجتمع من جديد وحاولوا ألا يكونوا غاضبين أو مستائين إنما بدلاً عن ذلك أن يفكروا بالعيش مجدداً جنباً إلى جنب بسلام ببقية البلاد، إن الوقت الطويل جعلهم يفقدون الأمل،
وفي قسمٍ من قصيدةٍ ل شينكاي يكتب :
سنينٌ مضت، الرياح تسرعها،
ربيعٌ آخر، ربما أملٌ جديد، حياةٌ جديدة …
يشير شينكاي إلى الربيع هذا الرمز الدالّْ على التجديد والحياة الجديدة بذلك يشير إلى الأمل بالعودة إلى البيت
في قصيدة هايكو للشاعر نيجي أوزاوا نقرأ :
من هذه النافذة، يائساً
أرى سماء مايو
هناك دائماً غدٌ
إن القصيدة أيضاً تشير إلى الربيع المتجسد بسماء مايو، حتى تجاه الإحباط فقد تمسك المعتقلون بالأمل،لكن والحال هذه لا يمكن القول أن كل المعتقلين كانوا يملكون ذات الجرعة من الأمل على الرغم من أن العديدين منهم لم يعبروا عن غضبهم ويبدي عدة شعراء إحباطهم ومشاعرهم الكئيبة وأغلب هذه المشاعر جاءت من إدراكهم للسخرية المريرة التي أتت بهم إلى ما يزعمونها بلاد الحرية، وكل ذلك يمكن استشفافه من قصيدة هايكو ساخرة كتبها الشاعر كيوتارو كوميرو :
في الحقيقة، إنه مهرجانٌ للاستقلال هنا،
إنه يكتب بمشاعر سخرية واضحة متمثلة بالاحتفال بيوم الاستقلال وهم سجناء .

إعداد : ج. تتر / عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.