هذا يحدث للمرة الأولى
غسان شربل
لا يتوقف الأمر عند وجود الجيشين الروسي والأميركي داخل الخريطة السورية كل إلى جانب حلفائه. هناك الوجود الإقليمي أيضاً. إيران موجودة بـ«حرسها الثوري» والميليشيات التابعة لها، وتشدد على أن وجودها شرعي وتم بناء على طلب من الحكومة. والجيش التركي يقاتل في منطقة عفرين لتشتيت الكيان الكردي وبلورة منطقة آمنة على الجانب السوري من الحدود. لم تستأذن أنقرة دمشق للدخول إلى الأراضي السورية. أغلب الظن أنها اكتفت بقبول روسي حصلت عليه مكافأة لها على المشاركة في رعاية مسار سوتشي. أكثر من ذلك ما تردد من أن أنقرة اقترحت على وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون انتشاراً عسكرياً أميركياً وتركياً في منبج في مقابل انسحاب القوات التركية منها. وما تردد أيضاً عن اقتراح موسكو إلباس المقاتلين الأكراد ثياب الجيش السوري في عفرين لإبعاد احتمال الاجتياح التركي.
لم يعِش العراق وضعاً مشابهاً على رغم قسوة ما عاشه. ولم تشهد ليبيا شيئاً مماثلاً على رغم ما تشهد. ولم يعرف لبنان في ذروة حروبه وضعاً مماثلاً. يمكن قول الشيء نفسه عن الصومال وأفغانستان وسائر البلدان التي تصدعت وحدتها وسيادتها ووقعت أسيرة تدخلات جيرانها ومن هم أبعد منهم. قصة سوريا مختلفة وفريدة. لم يسبق أن التقت على ملعب واحد كل هذه الأعلام والمصالح والأخطار والجيوش والميليشيات والتمزقات الداخلية والمبارزات الإقليمية والتجاذبات الدولية. من الجنوب إلى إدلب وحميميم وعفرين تبدو سوريا مستودعاً لبراميل البارود. إنها بلد وقع في قلب نزاع جيواستراتيجي واسع ومعقد يستحيل حسمه بالقوة ويصعب فيه توزيع الخسائر والأرباح. وهذا يحدث للمرة الأولى.
من يعرف سوريا قبل انسحاب جيشها من لبنان في 2005 يدرك هول ما أصابها. قبل ذلك التاريخ كانت سوريا لاعباً بارزاً في محيطها المباشر وعلى رقعة الشرق الأوسط. ولطالما نعتها دبلوماسيون بأنها «العقدة والحل» و«المعبر الإلزامي» و«الشريك الذي لا بد منه» في أي مقاربة لأزمات المنطقة. كان لا بدّ من دمشق في أي حديث عن عراق ما بعد صدام حسين. ولا بدّ منها في أي بحث عن مستقبل لبنان. ولا غنى عن معرفة موقفها في أي سعي لإيجاد حل للقضية الفلسطينية.
وأتقنت سوريا تلك لعبة جمع الأوراق. استضافت معارضات كثيرة. عراقية ولبنانية وفلسطينية وكردية وخليجية وحتى باكستانية. استضافت المعارضات وبرمجت تحركاتها في ضوء مصالحها. وكثيراً ما حصلت على مكافآت لنجاحها في ضبط الشياطين التي استقبلتها ورعتها. وهكذا كانت سوريا تلعب على أراضي الآخرين وتملك ما تلوّح به أو تقايض عليه.
كانت سوريا تلك حليفة لإيران لكنها كانت تدرك في الوقت نفسه أهمية المثلث السعودي – المصري – السوري كعمق عربي يضمن توازن سياساتها ويوفر الحماية لمواقفها. وكانت سوريا حليفة للاتحاد السوفياتي من دون أن تتحول «وكيلاً سوفياتياً». كانت تجلس في حضن موسكو وعينها على واشنطن. وكانت تقرأ الأحداث الدولية وتتكيف. حين شعر حافظ الأسد بانحسار الاتحاد السوفياتي أرسل قوة للمشاركة في حرب تحرير الكويت ولو ضمن ضوابط معينة.
حدث آخر يدل على البراعة. في الحرب العراقية – الإيرانية طلب الإيرانيون من سوريا صواريخ أرض – أرض. لم يرد الأسد الأب، وعلى رغم العداء المستحكم مع صدام حسين، أن يسجل التاريخ أن إيران قصفت المدن العراقية بصواريخ من الترسانة السورية. نصحت الأجهزة السورية الزوار الإيرانيين بطرق أبواب طرابلس حيث تكفلت حماسة عبد السلام جلود ومعمر القذافي بتأمين الصواريخ مجاناً.
حادثة أخرى ذات دلالات. ذات يوم أخلت إيران بالتزامها توفير شحنة نفطية كاملة لسوريا. ردت الأجهزة السورية بمنع انتقال الإيرانيين من سوريا إلى لبنان وبالعكس. كانت الرسالة واضحة ومفادها أن مفتاح وصول إيران إلى «حزب الله» اللبناني موجود في دمشق وبيد سلطاتها.
كانت سوريا تجمع الأوراق لتحريكها في الوقت الملائم. وكانت تفاخر في الغرف المغلقة أن سلاحها الأهم هو عجز القوى الخارجية عن امتلاك أوراق داخل سوريا وتحريكها.
أعطت لعبة تجميع الأوراق سوريا قوة أضيفت إلى قوة موقعها الجغرافي واستقرارها الصارم. الصحافيون الذين رافقوا لقاء حافظ الأسد مع بيل كلينتون في جنيف في مارس (آذار) 2000 لمسوا أن سوريا نجحت في إعطاء نفسها حجماً يفوق قدراتها الفعلية.
ما أبعد المسافة بين المشهد السوري السابق والمشهد الحالي. الجيش الروسي هو من أنقذ النظام السوري من الانهيار على حدّ ما أعلنت موسكو. لروسيا قواعد شرعية ومعلنة على الأرض السورية. ولأميركا قواعد ومطارات في شرق الفرات.
أخطر من الجنرالات الأميركيين هناك جنرال اسمه الوقت يعمل ضد روسيا التي لم تستطع إرفاق إنقاذ النظام بفرض حل سياسي. الأيام الماضية شهدت سلسلة انتكاسات روسية. إسقاط الطائرة الروسية وتعثر سوتشي والتباين المتزايد بين روسيا وإيران وتركيا، فضلاً عن فضيحة المرتزقة الروس الذين سقطوا بنيران أميركية. تتضاعف الإثارة في قصة المرتزقة الروس حين نقرأ أن سيدهم ومرجعهم هو من يطلق عليه لقب «طباخ الكرملين». وأن همهم الأساسي تأمين حقول الغاز أو النفط وتقاضي عمولة مرتفعة في مقابل هذا الدور. وأن هذا الطمع هو ما حرك هجومهم الأخير الذي وفر لأميركا فرصة تأديبهم وفضح دورهم في سوريا.
لا يتوقف الأمر عند وجود الجيشين الروسي والأميركي داخل الخريطة السورية كل إلى جانب حلفائه. هناك الوجود الإقليمي أيضاً. إيران موجودة بـ«حرسها الثوري» والميليشيات التابعة لها، وتشدد على أن وجودها شرعي وتم بناء على طلب من الحكومة. والجيش التركي يقاتل في منطقة عفرين لتشتيت الكيان الكردي وبلورة منطقة آمنة على الجانب السوري من الحدود. لم تستأذن أنقرة دمشق للدخول إلى الأراضي السورية. أغلب الظن أنها اكتفت بقبول روسي حصلت عليه مكافأة لها على المشاركة في رعاية مسار سوتشي. أكثر من ذلك ما تردد من أن أنقرة اقترحت على وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون انتشاراً عسكرياً أميركياً وتركياً في منبج في مقابل انسحاب القوات التركية منها. وما تردد أيضاً عن اقتراح موسكو إلباس المقاتلين الأكراد ثياب الجيش السوري في عفرين لإبعاد احتمال الاجتياح التركي.
مشاهد غير مسبوقة. تعلن إسرائيل للمرة الأولى أن طائراتها استهدفت مواقع إيرانية على الأرض السورية. ويرفع بنيامين نتنياهو جزءاً من حطام «درون» إيرانية قال إنها اخترقت المجال الجوي الإسرائيلي. ويهدّد أمام مؤتمر ميونيخ باستهداف إيران نفسها وعدم الاكتفاء بوكلائها.
كل هذا من دون أن ننسى المتطوعين الذين تسللوا إلى الأرض السورية من الجوار وأماكن بعيدة. جاء مقاتل من كازاخستان لقتل مؤيدي النظام وجاء مقاتل من أفغانستان لقتل معارضيه، وللمهمتين نكهة مذهبية صريحة.
تجاوزت أخطار الحريق السوري أخطار كل الحرائق الأخرى. السفير الفرنسي السابق في دمشق ميشال دوكلو كتب في صحيفتنا داعياً إلى الإفادة من فكرة اتفاق دايتون الذي أنهى حروب الانفجار اليوغوسلافي عبر جمع أصحاب المصالح حول طاولة واحدة. لا تبدو الظروف ناضجة إقليمياً ودولياً لطاولة من هذا النوع. المأساة السورية مفتوحة على أخطر الاحتمالات. والسوري هو اللاعب الأضعف في اللعبة الحالية على أرضه والقرارات الأخطر تتخذ في غيابه. هذا يحدث للمرة الأولى.
المصدر: الشرق الأوسط
التعليقات مغلقة.