عروبتان محليتان في العراق

49

رستم محمود

 

طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة، عاشت النُخب السياسيّة القوميّة العربيّة في أغلب مناطق «المثلث السُني» العراقي أوضاعاً تراجيديّة: فمناطقها كانت مُحتلة من تنظيم راديكاليّ تدميريّ، رؤيته وإستراتيجيته، وعموم قيادته، متأتية من «التُربة» الإيدلوجيّة والسياسيّة الأساسيّة لمنطقتهم نفسها: القوميّة العربية. كانوا يُلاحظون كيف أن أبناء مناطقهم لا يستطيعون اللجوء إلى المناطق العربيّة الأخرى من العراق، فالمليشيات الطائفيّة كانت تُمارس ضدهم أقسى أنواع الثأر الممزوج بالكراهية، على عكس ما لاقوه من ترحيب واضحٍ في كل مناطق إقليم كُردستان العراق. فوق ذلك، فالجيش العراقي «العربي»، ومعه قوات ميليشيات الحشد الشعبي، حينما حرروا مناطقهم، مزجوا «التحرير» بالكثير من التحطيم الأرعن، السياسي والمادي. شيء لم تفعله القوى المُسلحة الكُرديّة، طوال تمردها الطويل على القومية العربية في العراق.

سمحت أحداث كركوك الأخيرة بأن تتبدل الأحوال تماماً في بعض المناطق. فقد لاقى القوميون العرب فيها ما هو مُغاير: ظهرت الحكومة المركزيّة العراقيّة وهي تساند الاعتراض «العربي» المُناهض للطموحات القوميّة الكُرديّة الراغبة في السيطرة التامة على كركوك ومحيطها ومُستقبلها السياسي. بمعنى ما، رأوا «عرباً» يُساندونهم في التصدي لطموح جماعات قومية أخرى، الكُرد، ويستعيدون شيئاً من ذاكرة التعريب الأثيرة. كانت أحداث كركوك بمثابة استراحة لتجاوز القوميين العرب العراقيين للامتحان العسير الذي طاولهم في البيئة التقليدية للتيارات القوميّة في العراق، البعثيّة والناصريّة والاشتراكية العربيّة، أي المُثلث السُني العراقي.

راهناً، ثمة نزعتان قوميتان عربيتان محليتان في العراق، واحدة في كركوك والأخرى في الموصل. ترى الأولى أن السُلطة المركزيّة العراقية أهم حاضن وحام للهويّة العربيّة في الكثير من مناطق العراق، وبالذات المناطق التي يرونها مُهددة بسيطرة الكُرد عليها. فوق ذلك، فهذا الحيز من العروبة يرى في ما جرى في كركوك مناسبة لتوحيد عرب العراق، سُنة وشيعة، لتجاوز الانقسام الطائفي المرير. على العكس منهم تماماً، فإن «العروبة المصلاوية» لاتزال ترى في الحكومة المركزيّة والميليشيات الرديفة لها خطراً داهماً، على هوية المدينة وكامل المُثلث السُني، قومياً ومذهبياً. كذلك تعتقد بأن «الصراع» مع الكُرد تفصيلي، يتعلق ببعض المناطق فحسب، بينما الصراع مع استراتيجيّة القوى «الشيعيّة» المركزيّة الموالية لإيران وجودي، لأنها في المُحصلة تتوخى تصفية تراث وهويّة القوميّة العربيّة في مناطقها التقليديّة وفي كامل العراق.

لن يكون هذا التباين المحلي مجانياً، وأغلب الظن سيكون أهم مُشكل للوحة الكيانات والشخصيات السياسيّة التي ستمثل بيئة العرب السُنة في الدورة البرلمانية العراقية المقبلة، حيث ستتمكن القوى العراقيّة الحاكمة من استغلال هذا الشرخ على أكمل وجه.

لكن هذا التدهور في «مستوى الشرخ» بين التيارات القوميّة، حيث بات مُجرد صراعٍ بين بيئتين محليتين عراقيتين، لا ينفصل عن تقليدٍ تاريخي لشروخ الأنظمة والأحزاب والقادة والتيارات القوميّة العربيّة، حيث أنها نادراً ما كانت موحدة وغير مُتصارعة في ما بينها. وتدهور مستوى الشرخ راهناً دليل على مدى تدهور دور وموقع وفاعلية العروبة نفسها.

ففي العشريات مثلاً، كانت العروبة الحجازيّة مُتحالفة مع المشروع البريطاني ومُحاربة للعثمانيين، على عكس «العروبة الفراتيّة»، التي كانت تُقاتل بريطانيا في العراق بضراوة، واستمرت في ذلك حتى بداية الحرب العالمية الثانية، حينما وثقت علاقتها بألمانيا النازيّة أثناء انقلاب رشيد عالي الكيلاني، بينما كان العديد من التيارات القوميّة العربيّة الأخرى يرى في الانتصار البريطاني في الحرب الحل الوحيد للخلاص من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني نفسه.

في الخمسينات وبدايّة الستينات، كان صراع الزعيمين القوميين جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم تعبيراً عن ذلك الشرخ. في ما بعد، توارث وتقاسم حافظ الأسد وصدام حسين تلك التركة الصراعيّة، التي تفاقمت بالصراع الكاريكاتوري بين القذافي وياسر عرفات وصدام وحافظ الأسد على أرث عبد الناصر الخطابي، حيثُ لم يبق من العروبة إلاّها.

طوال هذه العقود التي قاربت قرناً، انحسر الصراع على زعامة العروبة وتفسيرها وسُلطتها الرمزية بالتقادم، من أقاليم جغرافيّة كبرى في العشرينات والثلاثينات، إلى تنابذ بين زعامات دول مركزيّة في الخمسينات والستينات، ومن ثم مجرد صراع شخصي بين قطبي البعث وبقية زعماء الدول الهامشية، لينتهي الأمر مجرد تخالف بين بيئتين محليتين عراقيتين. هذا التدهور في مستويات الشرخ والصراع على العروبة القومية، دليل دامغ على مدى فقدانها كل طاقتها، السياسية والشعبية والإيديولوجية وحتى الخطابية. بحيث تشبه صراعات مخاتير القرى وزعامات المناطق.

 

المصدر: الحياة

 

التعليقات مغلقة.