أن تستمر كاتباً .. أمير تاج السر
قبل أكثر من عشرين عاما وأثناء قراءاتي المكثفة، التي شملت الشعر والرواية والنقد، والتاريخ، والمجلات الثقافية التي تصدر هنا وهناك، وكل ما يمكن أن يمنح معرفة، قرأت لكثيرين أظنهم كانوا مبدعين في مجالاتهم. قرأت روايات عظيمة، وقصائد عميقة وتطرب، وما زلت أتذكر بعض المقاطع الشعرية والنثرية، من تلك الفترة. لكن ما لاحظته أن عددا كبيرا من أولئك المبدعين، اختفوا تماما عن سماء الإبداع، كأنهم لم يكتبوا يوما، وما عدت أرى سيرة لأحدهم، أو عملا جديدا، باستثناء صور قديمة، قد تنشر في تحقيق صحافي عن الكتابة، ويلتقي كاتب التحقيق بواحد من أولئك مصادفة، يدخن النرجيلة في مقهى ضاج، لا علاقة له بالثقافة.
وفي أثناء محاولاتي نشر كتاباتي الأولى، بالسفر إذا استطعت، وزيارة دور النشر المختلفة، تعرفت إلى كثيرين أيضا، إما يسعون مثلي لنشر كتاباتهم الأولى، وإما كتاب راسخون لدى دور نشر معينة، ويزورونها من حين لآخر، لإلقاء نظرة على كتبهم المرصوصة في بهو الدار، وهي إحدى متع الكتابة التي أعرفها جيدا، وهي أن تقف وتتأمل ما أنتجته، في مكتبة أو رصيف محطة، أو أي مكان آخر يمكن أن تعرض فيه الكتب.
وما زلت أذكر شاعرا رائعا، من مصر، التقيته في أمسية شعرية، أقامها لي زملائي الطلاب في مدينة طنطا، وجاء ليحضرها منساقا خلف إعلان خجول معلق على واجهة قصر الثقافة حيث تقام الأمسية. ثم ليصبح ذلك الشاعر العظيم حقا في كتابته، برغم الفقر والتشرد على أسطح البيوت، رفيقا في كل شأن ثقافي. وعبره تعرفت إلى مثقفين آخرين، ومعه طرقت أبواب النشر في القاهرة، واختفى بعد ذلك بلا أي خبر. لم أره بعد أن تركت مصر، ولا قرأت له مجموعة شعرية، ولا يملك أي سيرة داخل محرك البحث جوجل، الذي تعثر بداخله، حتى على سير الأجنة قبل أن تولد، وسيرة الرضع في أحضان أمهاتهم. كانت قصيدة: الشتاء الرائعة، التي يرددها دائما، هي دليلي في البحث عن ذلك الشاعر، لكنني لم أعثر عليه.
أيضا أذكر، أنني تعرفت في السودان وفي فترة الدراسة الثانوية، على شاعر آخر كان مبهرا، وكنت أتعلم منه إيقاع القصيدة، والبحث عن الفكرة، وأصبح مرشدا لي في كتابة الشعر الأولى، وليختفي بعد ذلك، بلا أي صيت أو أثر إبداعي يمكن العثور عليه، وإضافة لهذين النموذجين، يأتي كاتب رواية اسمه حسين، وكاتب قصص قصيرة، اسمه سعد، وآخرون بدأت أسماؤهم تتسرب من الذاكرة، أو تأتي بصعوبة عند محاولة تذكرها.
الذي أردت قوله إن عددا من المبدعين قد يبدأون السكة الإبداعية معا، وبالطبع في سكة مبكرة، يستمر بعض أولئك المبدعين، ليأخذوا حظا كبيرا في اللمعان، وينتجوا مؤلفات تصبح معروفة للقراء، بينما يتوقف الآخرون عن الكتابة تماما ويتواروا في زخم الحياة الكبير، منهم من ينشر عملا واحدا أو عملين، ومنهم من لا ينشر أي شيء، وتضيع كل بداياته التي كانت مبشرة، بالرغم من الحماس الكبير الذي يمتلئ به في أيام الظهور الأولى.
حقيقة ليس لدي تفسير منطقي لتلك الظاهرة، أي ظاهرة التوقف الكلي عن النشاط الإبداعي، والتواري عن سكته تماما، وربما رجمه بالحصى، إن صادف وذكر أمام المبدع الذي توقف. لكن ثمة عوامل كثيرة تتحكم في هذا الأمر، فتجعل مبدعا يستمر، ومبدعا ربما أفضل منه، يذوب بلا ذكر.
أنا أعتقد في العوامل الاقتصادية أولا، وهي من أكثر العوامل الحياتية، إحباطا للكاتب والشاعر والمسرحي والفنان، وكل من ينفق وقتا في صياغة عمل إبداعي. هنا المبدع يجد نفسه مضطرا لترك كل جنون فكري أو فني، والسعي للبحث عن لقمة العيش، فتصبح الحياة إذن ذات أولوية، تأتي قبل الإبداع، الذي يمكن سرقة وقت له بين حين وآخر، وتدريجيا، ينخرط المبدع في السكة غير المبدعة، ناسيا حتى سرقة الوقت، وبالتالي لا إبداع، ولا سيرة إبداعية ستسجل له. ويعتبر نشر الكتب خاصة في أيام بداياتنا وقبلها، من العوامل المحبطة حقا، كان عدد الناشرين قيلا جدا، ولا ينشرون إلا للأسماء المترسخة، أو الكتاب الذين يستطيعون تمويل أعمالهم، وقد ارتبطت الكتابة الجيدة، بالفقر في أغلب الأحيان، وهكذا تضيع من دون أن توثق.
من الأشياء التي تساهم في إمحاء الإبداع، وخمول سيرة المبدعين، ما أسميه تغير الفكر، أو تغير المواقف، فكثيرون كانوا يكتبون تحت مظلة فكر ما، ثم تغيروا عنه، وتغيرت نظرتهم للإبداع تماما، خاصة هؤلاء الذين كان يظلهم اليسار وتروج لهم بعض الأحزاب اليسارية في بداياتهم، ثم تحولوا إلى اليمين المتطرف، وأجبرهم تحولهم على النظر إلى الإبداع نظرات كلها ازدراء. ولدي نماذج أعرفها من هؤلاء، برغم من أنني أعرف قراء ومتذوقين في غاية التدين، لكنهم لم يزدروا أي إبداع إنساني، لا يمس المقدسات.
لكن في رأيي إن أهم ما يجعل الكاتب، أو المبدع عموما، يستمر، وينتج باستمرار، متحديا كل العوامل الاقتصادية، والحياتية، هو تبني مشروع ما، والاقتناع بجدواه، برغم عدم وجود عائد ظاهر. بمعنى أن كتابتك هي مشروع حياتك، رسمك للوحات، هي مشروع حياتك، وهكذا لن تضيع المشاريع أبدا.
إذن العوامل كثيرة، وبعضها يعتبر عائقا حقيقيا في سكة الإبداع، ولكن كل عامل يمكن دحره، ما دام المشروع مؤطرا، ويجب أن يقف على قدميه ويمضي إلى بعيد.
عن نشرة القدس العربي
التعليقات مغلقة.