حوار مع الفيلسوف المغربي الدكتور محمد سبيلا .. التشتت في المجتمعات الحديثة أدى إلى انحسار الصورة الإشعاعية للرموز الثقافية

40

24qpt899

 

 

 

 

 

 

 

حوار مسهب تناول فيه أدوار المثقفين في عالم اليوم ولاسيما في العالم العربي، وحلل تأثير تقنيات التواصل الحديثة على مجتمع المعرفة والفكر والإبداع، وتناول كذلك ثنائية التقليد والتحديث التي تتجاذب المجتمعات الإسلامية، ولاسيما في ظل «مخاضات الصراع الاجتماعي» كما يحب أن يصف ما يسمى الربيع العربي. ليتوقف في النهاية عند مآلات العولمة وانعكاساتها على عطاء الإنسانية في مختلف المجالات. فيما يلي نص الحوار:

– من خلال قراءة بعض ما يكتب عنك أو ما تكتبه أنت، نراك تميل ـ أحيانا ـ إلى مقولة بيير بورديو التي تقول إن «علماء الاجتماع أشبه ما يكونون بمشاغبين يفسدون على الناس حفلاتهم التنكرية»، ما الذي يعجبك في هذه المقولة؟
ــ هناك أيضا مقولة أَقْدَمُ منها للفيلسوف الألماني هيغل يقول فيها إن «الفلسفة هي رؤية العالم بالمقلوب»، وأورد هذه القولة لأربط بينها وبين قولة بورديو عالم الاجتماع، لأقول إن المفكر أو الفيلسوف أو المثقف بصفة عامة هو شخص لديه رؤية مختلفة عن الآخرين، عن الجموع أو عن الرأي العام المشترك. طبعا، بورديو يدفع بنا إلى حد القول إن المفكر أو الباحث السوسيولوجي مشاغب. وهذا يذكرني أيضا بقولة نابليون بونابرت الشهيرة: الفيلسوف الصالح مواطن فاسد. الجامع بين هذه الأقوال كلها، هو أن الذي يستخدم عقله بحدة، وبالمباضع والمشارح التحليلية، ينتهي إلى تحليلات وتصورات تختلف عن التصورات العامة لدى الجمهور، سواء الجمهور العادي أو الجمهور المتوسط، وربما حتى لدى «الجمهور الإلكتروني» المتعلق بالصناعات الثقافية. فرؤية الباحث ورؤية المفكر هي، على العموم، رؤية تحليلية من جهة، ورؤية نقدية من جهة ثانية. وبالتالي، تتضمن درجة من درجات التعارض بين التصورات الشائعة المتداولة في مجال من المجالات أو حتى في المجال العام، وبين الرؤية التحليلية العميقة.
نحن اليوم ـ مثلا ـ في الثقافة الحديثة نتغنى بحرية التفكير وبتنوع مصادر المعلومات وبانفتاح آفاق التواصل الاجتماعي وغير ذلك، مما يزود الباحث أو المشتغل بوجهات نظر مختلفة ويجعله يتخلص من الرؤية الواحدة أو الرأي الوحيد، ولكننا نتغافل أو نغفل أو لا نستطيع أن ندرك ما وراء ذلك من قدرات تكييفية ومن قدرات توجيه الرأي العام وصناعة الآراء، وما يسمى بالصناعة الثقافية. إذن، دائما سيظل هناك هذا النوع من التعارض بين المبضع التحليلي التشريحي النقدي، وبين الآراء المتداولة الشائعة. ومن ثمة، فمقولة بورديو هي مقولة صحيحة، وهو نفسه كان دائما مشاغبا، بمعنى أنه يقدم تحليلات وتشريحات للمجتمع أو الطبقة السياسية أو في قضايا سوسيولوجية مختلفة تتميز بالجدة وبالاختلاف عن الآراء المتداولة، فهذا شيء مشروع وطبيعي. وطبعا، وراء هذه الفكرة، هو أنه دائما هناك نوع من التقابل أو من الصراع من جهة، بين ما يسمى بالفرنسية: L’uniformisation، أي توحيد الأشكال أو التنميط على كافة المستويات، بما في ذلك المستوى الثقافي والفكري. فهناك آلية ثقافية أو فكرية كبيرة في كل فئة من فئات المجتمع وفي كل مجال من المجالات الاجتماعية والفكرية وغيرها تتجه نحو التوحيد. ولكن مقابل هذه الآلية، ثمة آلية أخرى لا توجد لدى العموم، بل توجد لدى الخواص. وبخاصة الباحثين في مجال الفلسفة والسوسيولوجيا وعلم النفس، وهي آلية تفكيك هذا التنميط؛ إنها آلية مضادة، بمعنى لا تقبل بتلك الصورة التعميمية الشائعة والآراء المتداولة. بل تقوم بتفكيكها، وبالتالي ربما تتخالف وتتصادم هاتان الآليتان.

«رُسل بدون رسالة»

– عُرِفَ المثقفون المشتغلون في مجالات الفكر وعلم الاجتماع، ولاسيما المؤسسين منهم، بكونهم كانوا يؤطرون رؤيتنا للعالم وللواقع ورؤيتنا التحليلية. الآن، إلى أي حد يمكن أن نتحدث عن استمرارية ما لهذه الأدوار التي قام بها الرواد أو الجيل السابق؟
ــ مع الأسف، التغييرات الاجتماعية التي تحدث في العالم تتميز بنوع من التشتت. بمعنى أنه من قبل، كان هناك مثلا دور الكتاب أو دور المجلة والصحيفة أو نحوه، فكان الرواد أو المثقفون المتميزون الذين يشكلون رموزا ومنابر ثقافية توجيهية معروفين وربما حتى محدود العدد، وكانت لهم مصداقية كبيرة. اليوم، من سمات المجتمع العصري، سواء المجتمع الأوربي أو الأمريكي أو حتى إسقاطات ذلك على مجتمعاتنا، هناك نوع من التعدد والتنوع وأستسمح على استعمال كلمة التشتت، فلم يعد هناك حقل موحد. تأملوا ـ مثلا ـ مع توافر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يكتب حول ظاهرة معينة، واختلاف الآراء وتضارب وجهات النظر حولها، كموضوع تأثير القنوات التلفزيونية بمشاربها المختلفة وبتنوعاتها وتعدداتها ومشاربها الإيديولوجية والمالية واللوبيات وغير ذلك. وأيضا، التشتت الحزبي الذي هو ظاهرة، طبعا ذات وجه إيديولوجي وذات وجه سياسي، ولكن لا تعكس بالضبط هذا التنوع والتعدد. إذن، اليوم ربما لم تعد تتوفر الشروط الاجتماعية الثقافية التي كانت سابقا تساهم في توحيد المجال وتوحيد الرؤية. وربما على الأقل في جعل الحقل حقلا موحدا، بل صار هناك تنوع وتعدد وتوسع لدائرة التأثير الثقافي، لم نعد فقط أمام هؤلاء المثقفين المرموقين المتميزين- مثل طه حسين وغيره- الذين لهم إشعاع فكري، وتتناقل وتتداول أفكارهم. اليوم، دخل العديد، بل الآلاف إذا لم نقل الملايين من الإعلاميين ومن النجوم والصحافيين ومن الكتاب والمثقفين من مختلف الدرجات ومن الوعاظ والدعاة، أو كما سماهم أحد الباحثين السوسيولوجيين «الرسل الجدد» ولكنهم «رُسل بدون رسالة» كما قال، قاصدا بذلك: كثرة الوعاظ المنتشرين في القنوات التلفزيونية، هم بمثابة وعاظ ورسل وإن كانوا لا يحملون رسالة بالمعنى الديني النبيل.
إن الشرط الذي كان متوفرا سابقا، أي وحدة الحقل، لم يعد متوفرا اليوم، بل أصبحنا أمام تشتت الحقول وتعدد الأدوات. يمكن أن نقول إننا انتقلنا مما يسميه ريجيس دوبريه (Régis Debray) من «Logosphère» إلى «Vidéosphère»، من عالم الكتابة وعالم القلم وعالم الجريدة والكتاب والمجلة، إلى عالم «Vidéosphère» الذي يعتبر عالما متعددا. لنشاهد فقط ـ مثلا ـ تكاثر القنوات التلفزيونية، وأيضا بالمناسبة، كثرة الخبراء الذين يقدمون في القنوات التلفزيونية على أنهم خبراء استراتيجيون ومحللون، ويأتون من كل حدب وصوب ويتفننون في ذلك، ولكن هم فقط مجرد مُجمّعي معلومات. أما المحللون الاستراتيجيون الحقيقيون فهم قلة، لأن التحليل الاستراتيجي يتطلب تكوينا وثقافة.
التعدد والتنوع والتشتت في المجتمع الحديث جعل من الصعب استمرار تلك الصورة الإشعاعية الرمزية التقليدية التي كانت لدى الرموز. أعطيكم مثالا، اليوم، لدينا مثلا في حقلنا الثقافي المغربي، رمز من الرموز الكبيرة في الفكر العقلاني والتحديثي هو عبد الله العروي، ولكن نظرا لتعدد المتدخلين الثقافيين والقنوات السياسية والإيديولوجية والثقافية المختلفة، تجد أن مثل هذه الأصوات تخبو أو يتم تحجيمها، أو على الأقل لم يعد لها ذلك التأثير القوي، فالشروط الاجتماعية الآن تختلف، مع التطور التقني طبعا، وأيضا مع التطور السياسي أيضا، المتمثل في الديمقراطية، لأنه ـ في النهاية ـ الديمقراطية هي التعدد وتنوع المشارب ونحوها، فربما هذه الصورة المثالية للمثقف الرمز الموجه لم تعد واردة، بسبب عدم توافر الشروط التي كانت تنتجها سابقا.

– هل يتعلق الأمر بغياب المفهوم الذي طرح من قبل، أي مفهوم «المثقف العُضوي»؟
ــ هناك تغيّر في مفهوم «المثقف العضوي» الذي انتشر بالخصوص في الستينيات والسبعينيات، والذي هو مصطلح ماركسي موروث عن غرامشي – الماركسية الإيطالية – التي تتحدث عن المثقف العضوي المندمج في الجماهير والمعبّر عن رأيها والمرتبط بالشعب. اليوم يمكن أن نقول إن المثقف العضوي توسع بعدة معانٍ، مثلا: المثقف الإسلامي الموجود في الأحزاب الإسلامية هو مثقف عضوي، ولكن ليس بالمعنى أو المضمون الماركسي، مثقف عضوي بمعنى أنه مرتبط بشريحة دنيا أو عليا من الشرائح التي تمثل الشعب ويعبر عنها ولديه طبعا التزام إيديولوجي بالدفاع إما عن الإسلام السياسي أو عن توجه معين. إذن، فاليوم توسع هذا المفهوم، وإن كان لم يعد يستعمل بالصيغة نفسها، المثقف العضوي أو المثقف الملتزم، ونعرف أن سارتر في القرن الماضي كان يملأ الدنيا حديثا عن «المثقف الملتزم» الذي يمثل أصداء للتأثير الماركسي في الوجودية وفي الفكر الفرنسي أو في الفكر اليساري عامة في ذلك الوقت. توسّع هذا المفهوم بهذا المعنى: أنه مثلما نجد مثقفا عضويا يساريا، نجد مثقفا عضويا يمينيا، أو مثقفا عضويا إسلاميا إلى غير ذلك، هذا معطى أول. المعطى الثاني، وقد أشرت إليه في الجواب السابق، هو تعدد المتدخلين وتعدد المثقفين، لأنه مع تعدد وسائل التواصل، ومئات- إن لم يكن الآلاف- من القنوات التلفزيونية، حصل تشتت وتعدد في المشهد، وتدخل كل من باستطاعته أن يتحدث أو يصوغ خطابا – على كل حال – متماسكا.
مفهوم «المثقف العضوي» باق ومستمر، ولكنه اتخذ أشكالا متعددة. وأرى، شخصيا، أن: مفهوم المثقف العضوي يعدّ ـ إلى حد ما- مفهوما إيديولوجي، أو ذا حمولة إيديولوجية. كما أن المثقف ـ وهذا هو ربما الجديد في تقديري ـ ليس فقط لديه دور إيديولوجي، بل أيضا دور معرفي. والدور المعرفي، أو الوظيفة المعرفية، أو الوظيفة التحليلية، تتطلب حيادا أكبر وموضوعية أكبر وتتطلب رزانة أكبر في التحليل، لأن المثقف العضوي مثقف منحاز ومتحيز. ولذلك، فعقله التحليلي والنقدي أضعف من عقله الإيديولوجي المتحيز. وعلى الرغم من تكاثر هذا النوع من المثقف العضوي الإيديولوجي المتحيز، أعتبر أن هناك دائما ضرورة، في كل المجتمعات، للعقل التحليلي ولمستوى معرفي معين. وطبعا، هذا يتطلب شروطا منهجية وإبستمولوجية وفكرية، من ترصد الظواهر، والحذر في إصدار الأحكام وإعطاء الأولوية للتحليل ولإبراز المعطيات وللتشريح، أكثر من التوجهات والانحيازات.

علاقة ماكرة بين التقليد والتحديث

– تحدثتم وكتبتم كثيرا عن الحداثة وما بعد الحداثة، إلى أي حد يمكن أن نبحث أو أن نتلمس تمثلات هذين المفهومين في سياقنا العربي؟ هل هناك تجليات حقيقية، أم أنها ما زالت مطمحا مأمولا تشترطه ظروف معينة مرتبطة ربما بسيادة الديمقراطية والفكر الحر وحرية الاختيار وغير ذلك، إذا قسنا المفهومين على أرض الواقع؟
ــ هناك مستويان في تناول هذا الموضوع: هناك المستوى الثقافي والفكري الذي تحدثت عنه، ولكن هناك مستوى آخر سابق على هذا المستوى، وهو الشرط التاريخي. بمعنى أن المجتمعات العربية الإسلامية قد دخلت في أتون الحداثة وفي مخاض الحداثة منذ دخول الاستعمار، أو منذ غزوة نابليون بالنسبة لمصر مثلا، ودخول الاستعمار إلى المغرب وغير ذلك، لأن الحداثة والتحديث آلية كونية تجسدت، أو تشخصت، عبر الاستعمار وعبر الرحلات وعبر إنشاء منظومات تقنية ومالية واقتصادية في بلدان المحيط، انتقالا أو نقلا. إذنْ، هذا الشرط الاجتماعي ـ التاريخي لا يمكن رفعه، لأنه واقع حداثي، جعل هذه البلدان، شاءت أم أبت، تدخل في سيرورة الحداثة، وهو شرط موضوعي ولا يتعلق برغبات الأفراد وإراداتهم وتصوراتهم، أفرز سيرورة تحديث في المجتمعات العربية الإسلامية.
المستوى الثاني مستوى الاختيارات الفكرية، هنا يمكن أن نقول إنه في مجتمعاتنا العربية الإسلامية هناك تياران رئيسيان كبيران: التيار التحديثي، والتيار التقليدي. بما أنه على مستوى الوعي وعلى مستوى الثقافة، حدث نوع من الصراع في كافة المجالات. طبعا، في السياسة كان الصراع الإيديولوجي أوضح: هذا عصري تقدمي، وذاك رِجعي تقليدي. ولكن، أيضا، على المستوى الثقافي والفكري، سواء على مستوى الأدب أو على مستوى الفنون كالسينما والمسرح وغيرهما أو على مستوى كافة المستويات الثقافية، هناك صراع حاد، أحيانا صريح وواضح، وأحيانا خافت وثاوٍ في قلب وثنايا الظواهر، فهو صراع بين الرؤية التقليدية والرؤية التحديثية. أستعمل كلمة صراع، لأن هناك تباينا بين رؤيتين وبين ثقافتين، إحداهما تقليدية والأخرى تحديثية، سواء من حيث تصور المجتمع، أو تصور الفرد، أو تصور المقدس، أو تصور السياسة أو الحكم أو الإبداع أو غير ذلك. هناك منظومتان كبيرتان مختلفتان، ومتمايزتان في ماهيتهما الفكرية، ولكنهما ـ عملياً ـ متداخلتان ومتفاعلتان، لأن التحديث يتطلب دوما نوعا من استعمال التقليد، أو الركوب على التقليد حتى يكسب- لنقل- مشروعية أو حتى يأخذ صورة مقبولة ويشيع. وفي الوقت نفسه، التقليد يجد نفسه مضطرا لأن يخرج من موقع التزمت ورفض العصر إلى ضرورة التفاعل مع ما هو حديث واستخدامه أيضا لإكسابه معنى، لتقليم أظافره ولإكساب التقليد معنى حديثا، ولإكساب الحداثة وجها ربما مقبولا من حيث التقليد.
إذن، فالقانون الأساسي هو قانون التفاعل، وأنا استعملت كلمة صراع ولكن أقول كلمة تفاعل، أحيانا يبلغ درجة من الحدة: نسميه صراعا، ولكن على العموم هو تفاعل صامت، أحيانا ينفجر، طبعا ـ كما قلت ـ على المستوى السياسي يبدو واضحا: صراع بين نمط الحكم التقليدي ونمط الحكم العصري، بين نمط حكم تقليدي يعتمد على استمداد المشروعية من التقاليد ومن الماضي ومن المقدس ونوع من عصمة الحكام وضرورة عدم الخروج على الحكام أو شيء من هذا القبيل، وبين تصور عصري أو حداثي يعتبر الحكم أو السلطة مسؤولية تتطلب المحاسبة وتتطلب أولا التمثيلية من خلال مؤسسات، أي أن تكون معبّرة عن المجتمع وليست نازلة من السماء. بمعنى أننا ندخل اضطرارا لتفاعلات، بدرجات متفاوتة، بين المكون التقليدي والمكون العصري.
ما يجري، اليوم، في العالم العربي تجسيدا لهذه التضاد، بين التقليد الذي يتجه نحو إقامة دولة دينية أو «إمارة إسلامية» وظيفتها الأساسية هي حماية الدين وحماية الملة أو حماية الملة أو حماية «البيضة» كما يقول الفقهاء؛ وبين التحديث الذي يصارع ليفرض نفسه، سواء عن طريق تذويب العنصر التقليدي، أو استخدامه أو امتطائه أو مختلف الأساليب التي يلجأ إليها كل طرف. أنا أسمي هذا العلاقة بالعلاقة الماكر بين التقليد والتحديث، بمعنى أن كلا منهما كمكون وكدينامية يحاول أن يمتطي الآخر ويستعمله ويركب عليه ليفرض نفسه. التقليد من جهة يلجأ لاستراتيجية دفاعية، ولكن أيضا أحيانا هجومية، والتحديث، على كافة المستويات، يلجأ أيضا إلى استراتيجية أحيانا هجومية أحيانا فيها أنواع من المهادنة والتنازلات ومحاولة كسب مجالات أو كسب أدوات أو كسب مؤسسات أو شيء من هذا القبيل.
إن هذه العلاقة الماكرة علاقة معقدة ومركّبة، ولكن أيضا علاقة رمزية، بمعنى أنها متعددة الدلالات، فظاهرها متعدد المعاني، لأنه يخفي وراءه صراعات ورمزيات مختلفة. وطبعا هذا موضوع في غاية التعقيد، فالسطح يبدو وكأننا أمام أبيض وأسود، ولكن في العمق نجد أن هناك تداخلات وتفاعلات. ويمكن أن نقدّم مثالا للتوضيح: لباس المرأة المغربية اليوم، أو معظمه، هو نوع من التوفيق بين المنزع التقليدي والمنزع التحديثي، المنزع التقليدي المتمثل في غطاء الرأس وفي الحجاب أو المتمثل- عموما – في صيانة المظهر، وبين اللباس العصري بمختلف مستوياته… فهناك ضغط من جهة للتقليد وعودة التيارات التقليدية والإسلامية بقوة إلى الساحات العربية والإسلامية خاصة بعد الثورة الإيرانية، وفي الوقت نفسه هناك تحايلات ومقاومات يقوم بها التحديث لاكتساب المزيد من المجالات. وهنا طبعا المجالات، مختلفة؛ تقنية، اقتصادية، سياسية، ثقافية، حتى داخل الثقافي هناك مستويات متعددة.

– وأنتم تتحدثون عن العلاقة الماكرة ما بين التقليد والتحديث، إلى أي حد يمكن الحديث عن حضور أو غياب المكوّن الثقافي فيما شهدته الأقطار العربية مؤخرا من حراك؟ أنتم تعلمون بشكل أعمق وأقوى أن العديد من حركات التغيير أو الثورات التي عرفت عبر من التاريخ، سواء في أوربا أو في شرق آسيا أو في غيرها من المناطق، كان فيها المكون الثقافي حاضرا بشكل قوي. بمعنى آخر، أي دور للمثقفين في هذا الحراك العربي؟
ــ الحراكات العربية أو ما أفضل تسميته بمخاضات الصراع الاجتماعي في العالم العربي، مرتبطة بأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة. بمعنى أنها تعكس بدرجات متفاوتة هذه التفاعلات الاجتماعية أو الغليان الاجتماعي أو الصراعات الاجتماعية. على المستوى الثقافي، يمكن أن نتحدث أيضا عن مستويات، المستوى المتعلق بالمكونات الثقافية العامة لشعب أو لفئة من الفئات، وهنا يمكن أن نتحدث طبعا عن التيارين اللذين تحدثنا عنهما سابقا، التيار التقليدي والتيار التحديثي.
هنالك أبعاد ثقافية لمخاضات الصراع العربية. البعض يرجعها إلى تأثير ثقافة الإعلام والثقافة الإعلامية الحديثة، ودور قنوات التواصل الاجتماعي، وربما حتى دور بعض الفئات أو بعض جمعيات المجتمع المدني الذي تم تكوينها في بعض المراكز العالمية بهدف التحريك، وطبعا هي تحمل ثقافة عصرية أو الدعوة إلى ثقافة ديمقراطية وما إلى ذلك، فالمكون الثقافي حاضر باستمرار. وهنا أتذكر مقولة ممتازة للمحلل الاستراتيجي المصري محمد حسنين هيكل، يرجع فيها ما يحدث في العالم العربي ـ أي ما يسمى بالثورات أو الحراكات العربية ـ إلى تفاعل بين التقليد والتحديث. في النهاية، وبغض النظر عن الأشخاص والأحزاب والتمثيلات المختلفة لهذه الفئات أو تلك، نجد بأن هناك صراعا تشهده هذه المجتمعات، بين رغبة في التقدم والتحديث، وميل إما إلى البقاء أو نوع من الروتين الاجتماعي أو حتى العودة إلى الماضي. لماذا أستثمر هذه الفكرة؟ لأنها بالضبط تندرج في إطار رؤيتي التي تحدث عنها في الكثير من المقالات حول هذه الدينامية الأساسية.
طبعا، بعض المتحزبين، أو ذوي الميولات الإيديولوجية المتسرعة، لا يعجبهم اختزال هذا الصراع الاجتماعي، الذي هو ذو طابع سياسي وثقافي، في صراع أو تفاعل حاد بين آليتين كبيرتين تعتملان في قلب المجتمعات العربية الإسلامية وهما: آلية التحديث، سواء في وجهه الليبرالي أو غيره، وآلية التقليد، سواء فهمنا هذا التقليد بالمعنى السياسي أو بالمعنى الديني، العودة إلى ماض نموذجي مثالي مرت به هذه المجتمعات وتحلم بأن تعيده دولة الخلافة أو المجتمع العادل أو المجتمع الفاضل أو شيء من هذا القبيل. عندما لا تقف عند الأحداث وعندما لا تشدك الوقائع إليها وتحاول أن تلقي نظرة شمولية، فتجد أن كل ما يحدث- وإن كان هذا فيه نوع من التجريد (Abstraction)- هو تعبير عن مخاض عميق في هذه المجتمعات بين دينامية التحديث ودينامية التقليد بالمعنى الواسع للكلمة وفي كافة المستويات. وهاتان الديناميتان المتداخلتان، لن يتم الحسم في نتائجها اليوم أو غدا، بل هي نوع من السيرورة التاريخية طويلة المدى، من جهة تدل على أن هذه المجتمعات ليست آسنة، وأنها – على كل حال- تعيش نبض التاريخ، أو تحيا نوعا من الحيوية، سواء هذه الحيوية في اتجاه نحو المستقبل ونحو الحداثة ونحو التقنية ونحو العصرنة، أو حركية نحو الارتداد إلى الماضي بشكل من الأشكال. أعتقد أن هذه الدينامية طويلة المدى لم يتم الحسم فيها. إذا وسعنا التحليل، نعود بها إلى مرحلة دخول الاستعمار إلى هذه المجتمعات، ثم تحررها منه، ثم مرحلة الاستقلال، وهنا انطلقت هذه الدينامية بشكل بطيء، الصراع من أجل تملّك التاريخ والقفز إلى الركب الحضاري أو شيء من هذا القبيل. ولكن، في نفس الوقت، هناك قوى تجر إلى الوراء. وهذه السيرورة هي سيرورة لنقل بالمعنى الرياضي: ذات منحنيات منعرجة، صاعدة ونازلة، مرة تنتصر التوجهات التحديثية، ومرة تنتصر التوجهات التقليدية. نعطي كمثال مصر، فبعد ما يسمى بالثورة على نظام مبارك دخلت تجربة الإخوان، لنقل إن هذه تجربة – على كل حال – تقليدية أو تتوجه نحو نوع من التقليد المعصرن، أو على الأقل همها الأساسي هو إقامة الدولة الإسلامية العصرية. بعد حوالي سنة، قامت القوى التحديثية بمساندة الجيش بالقضاء على هذه التجربة والدخول في تجربة جديدة، فهذا بالضبط هو هذا المنحنى التاريخي، مرة ينتصر التقليد أو التقليد المشدد أو غيره، ومرة ينتصر التحديث. هذه في الرياضيات تسمى الحركة الجيبية، بمعنى المنحنى الصاعد النازل باستمرار. وأفترض أن مآله بعيد المدى هو الانتصار التدريجي للتحديث، على الرغم من كل التعثرات. التحديث المتصالح مع الذات، التحديث الذي يراعي المكونات إلى غير ذلك، لأن هذا قدر العصر، وليس اختيارات أفراد أو نزوعات إيديولوجية بقدر ما هو متطلبات العصر ومتطلبات المناخ العالمي الذي وصل درجة معينة من التقنية ومن التحديث ومن التدبير العقلاني للطبيعة وللمجتمع وللتاريخ، بحيث يضع أمام هذه المجتمعات تحديات لا محيد لها عنها.

– ذكرت في بداية الحوار المكانة الثقافية، بالحديث عن انتصار كل طرف على الآخر- الطرف التقليدي والطرف التحديثي- ألا يعتبر في بلداننا غياب نوع من حركات الثقافة المضادة (Counter Culture) هو ما يجعل السلطة تستفيد من هذا التدافع أو الصراع بين التيارين التقليدي والتحديثي؟ وبالتالي هي تكون محايدة أو رمادية تستغل هذا الصراع لصالحها، بمعنى أنه ليس هناك نوع من الثقافة المضادة لمحاربة التنميط، وأبرز مثال هنا هو النموذج المصري. مثلا في الإعلام نرى اليوم، بعدما وقع، الإعلام المصري يميل إلى وجهة واحدة فقط، مما يجعل أغلب القوى، بما فيها التحديثية، مستبعدة. فكيف تنظر إلى غياب حركات الثقافة المضادة في بلداننا؟
ــ من الصعب تقديم صورة صافية عن مكونات الصراع وأطرافه، لأن التداخل هو أولا في الأفكار والمعطيات الثقافية، وأيضا في الأشخاص والمواقف. يمكن أن نقول- مثلا- أنه في فترة معينة بعد حصول البلدان العربية على استقلالها، أي ابتداء من خمسينيات القرن الماضي، بدأت موجة تحديثية وعصرية تطغى وتسود. أقامت نظاما سياسيا ديمقراطيا، وأقامت نوعا من المجتمع العصري، يقبل بالتقنية ويحدث الثقافة ويحرر المرأة، كان ثمة منحى صعودي. لنقل بين 1950 إلى حدود 1967، سنة الهزيمة أمام إسرائيل، والثورة الإيرانية في 1979. هذه مرحلة عاش فيها العالم العربي، سواء في مصر أو في غيرها، مرحلة من الطموح نحو التنوير والتحديث والتقدم والعصرنة… نتيجة الصراع مع إسرائيل، ووراءها الغرب، وبزوغ الثورة الإيرانية التي هي ثورة متعددة الأوجه، هي من جهة محاولة للتحرر من الغرب، وفي الوقت نفسه محاولة للعودة إلى الماضي وإلى التراث وإلى التقاليد؛ فهي تحررية سياسيا، ولكن لديها نوع من طابع العودة إلى التقليد من الناحية الثقافية والفكرية. هذه المرحلة، إذن، مرحلة صعود ومرحلة طموح نحو العصرنة والتحرر. وفي هذا الإطار عاش المغرب قضية تحرر المرأة والمرحلة التقدمية والوطنية المستنيرة. ابتداء من هذه الفترة، تركت الثورة الإيرانية بصماتها وبدأت التيارات التقليدية الإسلامية، أو ما يسمى بالإسلام السياسي، بالانتعاش، حيث بدا تعبيرا عن رغبة في التطور، ولكن في إطار العودة إلى التقاليد، والعودة إلى الماضي، ورموز الماضي ومتخيل الماضي والدولة الإسلامية والخلفاء الراشدين وهذا المتخيل الإسلامي كله. وبدأت هذه المجتمعات من جديد تعود، على الأقل في نخبها، نحو التحديث. كمثال على ذلك في هذه الفترة كانت المرأة – في المغرب- متحررة، حيث أزالت الجلباب وبدأ اللباس العصري كرمز ثقافي. وابتداء من هذه الفترة التي ازدهر فيها الإسلام السياسي، بدأت العودة إلى نوع من هيمنة الماضي والتصور الإسلامي السياسي إلى غير ذلك. إذن، فالمسألة تتعلق بفترات، بحقب تاريخية كبرى تتعلق بالتاريخ. مثل تاريخ كوني لا دخل لنا فيه، وقد لا ننتبه له. داخل هذه الحقب تكون فعالية النخب أو التوجهات، فالجديد هو ظهور الإسلام السياسي، وأحزاب الإسلام السياسي ودعواتها المختلفة إلى عدم التفريط في التقليد وإلى مقاومتها لما تسميه بالإباحية وغير ذلك، وكل المظاهر التي بدت لها نوعا من الإخلال. كل بلد لديه خصوصية في هذا المجال، مصر لها خصوصية في هذه الفترة أنه مع انتشار دعوات الإسلام السياسي، واكتساب حركة الإخوان – سواء في البرلمان أو في الثقافة أو في الصحافة – نوعا من التأثير، ودخلوا في صراعات لا داعي هنا لذكر تفاصيلها، حينها قامت الدولة العميقة برد فعل، ولكن الدولة العميقة بدعم من التيارات التحديثية. في هذا الإطار، دخل نوع من ضبط المجال العام، وخاصة الصحافة في مصر، لأنه في الفترة السابقة، الدعاة الجدد والإسلام السياسي كان له باع طويل. فالدولة العميقة أو التجربة الجديدة في مصر حاولت أن تضبط. هذا نوع من التنميط، ونوع من الصراع السياسي. ولكن يبقى القانون العام هو الفيصل.
يوجد خيط ناظم هو: الصراع بين الرؤية التقليدية والرؤية التحديثية. أحيانا، تكون لهذه الرؤية تحديثية سلطوية أكبر ومحاولة لضبط أكبر، وربما هي ضرورة تاريخية تفرض نفسها.

العولمة تعبير عن قوى صنعتها الحداثة

– هناك حديث، ربما يبدو الآن قديما إلى حد ما، عن العولمة بتجلياتها المختلفة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية إلى غير ذلك. أنتم تعلمون أنه في مراحل متعددة من النقاش الفكري يتم تجدد المفاهيم، هل العولمة الآن تعيش تجددا أم ربما أفولا على مستوى المفهوم؟
ــ على مستوى المفهوم، يمكن أن تتغير أو تتجدد المفاهيم. ولكن الآلية واحدة لأن العولمة هي تعبير عن مرحلة من مراحل التحديث أو هي تحديث على المستوى الكوني لم تعد فيه قوى واحدة فاعلة، تعدد القوى، توزيع مصالح، إلى غير ذلك. فهي شكل من أشكال السيطرة مثلا، فقط فيما يخص مصطلح الحداثة وما بعد الحداثة الذي تحدثنا عنه، البعض يرى بأن العولمة هي تعبير عن الحداثة في صورتها العامة وعن قوى الحداثة، وأن المجتمعات الغربية دخلت إلى ما بعد الحداثة. هناك، طبعا، مغالطة كبرى تعيشها الثقافة العربية نتيجة بعض الميولات التقليدية فيها، حين يقال: الحداثة انتهت، وحتى أصحابها تخلوا عنها، ودخلوا إلى مرحلة ما بعد الحداثة، فلماذا نحن نتشبث بالحداثة؟ طبعا، هذا موقف تقليدي. والتقليد هنا يستعمل التصورات في إطار دعم موقفه، ولكن هذا موقف إيديولوجي غير صحيح. لأن ما بعد الحداثة في الغرب، ليس تنكرا للحداثة وليس ضد الحداثة. نعم، اللفظ العربي «ما بعد الحداثة» يوحي وكأن الأمر يتعلق بالخروج من الحداثة. لا، هي مرحلة من مراحل الحداثة. اليوم، الغرب يسمونها «Néomodernité»: حداثة جديدة، أو مرحلة من مراحل الحداثة، أعتقد أنها أعمق وأكثر تعبيرا عن عمق الحداثة من الحداثة الكلاسيكية التي هي أصبحت نوعا من التقليد والعقلانية المتحجرة الجامدة وغير ذلك.
يعني ذلك أن العولمة هي تعبير عن القوى التي صنعتها الحداثة والتحديث، سواء القوى الاقتصادية المالية، أو القوى التقنية، أو حتى القوى السياسية، وأنها ـ في تقديري ـ لا يمكن الارتداد عنها. إنها المرحلة المقبلة لتاريخ البشرية، لأنه في التاريخ، في التطور التقني، لا يمكن الارتداد عن صناعة الصواريخ واكتشاف الفضاء… وهذه المعجزات التقنية التي أحدثتها الحداثة، سواء على مستوى اكتشاف الخلية ومكونات الخلية والجينات، أو على مستوى اكتشاف الكون. هذه «Irréversible»، لا يمكن الرجوع عنها أو التوقف. بل هي دينامية ستزداد عمقا، وتزداد حدة في المستقبل، لأنه فقط سيحدث نوع من التسارع في الاكتشافات.
اليوم نعرف أن التقنيات الحديثة، أو على الأقل الفلك الحديث، نعرف أن الكون لانهائي، وأنه في حالة تمدد مستمر، وأن المجموعات الكوكبية، أو الدروب الكوكبية، لا نهاية لها، وأنه الآن يتم التخطيط للوصول إلى بعضها. هذه أقدار تاريخية لا راد لها، وهذه هي الأشياء التي لا يستطيع التقليد أن يستوعبها، لأنه يظل سجين رؤى تقنية ومعرفية عفا عليها الزمن.
…………………………………………………………….

بطاقة

ولد محمد سبيلا في الدار البيضاء عام 1942، تابع دراسته بكل من جامعة محمد الخامس بالرباط وجامعة السوربون بباريس، فحصل سنة 1967 على الإجازة (الليسانس) في الفلسفة، وفي نفس السنة التحق باتحاد كتاب المغرب، وفي سنة 1974 حصل على دبلوم الدراسات العليا، ونال دكتوراه الدولة سنة 1992 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. اشتغل أستاذاً جامعياً بهذه الكلية، وشغل منصب رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بكلية الآداب بفاس ما بين 1972 و1980، وترأس الجمعية الفلسفية المغربية ما بين 1994 و2006.
تتوزع إنتاجاته بين البحث الفكري والفلسفي والترجمة، من بين مؤلفاته: مدارات الحداثة، الإيديولوجيا: نحو نظرة تكاملية، الأصولية والحداثة، المغرب في مواجهة الحداثـة، الحداثة وما بعد الحداثة، للسياسة بالسياسة، أمشاج، دفاعاً عن العقل والحداثة، زمن العولمة في ما وراء الوهم، حوارات في الثقافة والسياسة، في الشرط الفلسفي المعاصر،
مخاضات الحداثة، الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان، في تحولات المجتمع المغربي… كما ترجم كتبا لكل من ألتوسير وهايدجر وبول لوران أسون وميشيل فوكو… وغيرهم.

عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.