هوليوود والحقبة النازية في كتابين
يمكن للمتابع والهاوي مشاهدة عشرات، إن لم يكن مئات، الأفلام الأميركية الحربية التي أنتجت في الأربعينات والخمسينات حول الحرب العالمية الثانية عموما وحول المعارك التي خاضتها القوّات الأميركية في أوروبا ضد القوات النازية في العامين الأخيرين من الحرب. لكن إذا ما بحث عن أفلام أنتجتها هوليوود في الثلاثينات لتحمل شعلة المناوئة للأفكار النازية التي كانت بدأت تستعر في ألمانيا بفضل نجاحات الحزب العمّال الوطنيين الاشتراكيين، فإنه لن يجد منها شيئا. هذا طبيعي كون هوليوود حتى مطلع الأربعينات، منذ أن أسس اليهود النازحون من أوروبا في مطلع القرن العشرين معظم شركاتها الكبرى (والأصغر أيضا)، كانت اختارت أن تبقى بعيدة عن الصراعات السياسية التي تلت انتهاء الحرب العالمية الأولى وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. هذا الموضوع يسلط عليه الضوء كتابان صدرا حديثا، وهما «هوليوود وهتلر: 1933 1939» Hollywood and Hitler: لتوماس دوهرتي Thomas Doherty، وهو بروفسير في الدراسات الأميركية جامعة كولومبيا و«التعاون: حلف هوليوود مع هتلر» The Collaboration: Hollywood›s Pact With Hitler لبن أرواند Ben Urwand من جامعة هارفارد.
مشروع ممنوع
هذه ليست المرّة الأولى التي تُثار فيها المسألة على صفحات كتب صدرت عن مجموعة من الباحثين والأكاديميين الأميركيين بينهم ستيفن كار ولستر فرايدمان وجفري شاندلر والناقد ج. هوبرمان، لكن ضمن اهتمامات أوسع ساهما فيها التعاون بين الكاتبين دوهرتي وأرواند.
وعلى الرغم من أن الكتابين يختلفان في المنهج اختلافا واضحا، فإن كلا منهما يكمّل الآخر ليرسما معا صورة واسعة عن هوليوود من ناحية وعن تحالفاتها السياسية من ناحية أخرى. بالنسبة لكتاب أرواند يلحظ القارئ نوعا من الحيادية شبه التامّة حين يقرأ المؤلف كنه العلاقة. فهو لا يستخدم كلمات إدانة وإن فعل فإن القليل منها موجّه إلى الطرف النازي («الأثر العظيم لهتلر ترك بصمته على الثقافة الأميركية» وفي مكان آخر «التعاون مع أدولف هتلر.. الشخص والكيان الإنساني»!
لكن ما يميّز كتاب أرواند عن ذلك الذي وضعه دوهرتي تركيزه على الدور الذي لعبه جورج غيسلينغ في هوليوود، وهو دور كان أساسيا في تجييش فنّي ملحوظ من عام 1933 عندما باشر عمله كمستشار الحزب النازي في هوليوود. غيسلينغ كان حط أولا كقنصل ألماني في واشنطن سنة 1927 ثم عُهد إليه بالملف الهوليوودي بأسره وتم نقله إلى هوليوود سنة 1933. بعد حين قصير بدأت أنفاس الرجل تلاحق منتجي هوليوود ورؤساء الاستوديوهات الكبيرة، ولم تتجاهل حتى الممثلين في بعض الحالات محذّرا دائما من مغبّة مشاريع معيّنة إذا ما جرى تنفيذها على النحو الوارد في السيناريو.
هذا ما يعني أن الرجل كان يستلم السيناريوهات في وقت متزامن مع استلام المنتجين ومسؤولي الاستوديوهات لها. ذات مرّة، يرد في الكتاب، قام الكاتب اليهودي هرمان مانكوفيتز بوضع سيناريو حول اضطهاد اليهود في ألمانيا النازية والنسخة وصلت إلى غيسلينغ فبعث بتحذير لجميع الاستوديوهات فحواه أنه إذا ما قام استوديو واحد بإنتاج هذا المشروع، فإن ألمانيا ستمنع توزيع كل الأفلام بصرف النظر عن الاستوديو المنتج لها. النتيجة هي أن المشروع لم ير النور.
الحقيقة أنه بالإمكان الاستمرار طويلا بإيراد الأمثلة والمواقف التي يحفل بها كتاب دوهرتي أيضا لو أراد المرء أن يسرد المزيد من خلفيات ذلك التعاون وإلى أي مدى بلغ تأثير غيسلينغ ذاك على صنع القرار حول أي فيلم يمكن صنعه وتحت أي ظرف. بعض الأفلام تعرّضت لتوصيات طفيفة جرى الاقتداء بها لتجنّب ما حذّر به دوما من احتمال منع عرض الفيلم في السوق الألمانية. وقراءة الكتابين مثيرة إن لم يكن حبّا في السينما وحبّا في التاريخ، فعلى الأقل لناحية الكشف عن مخزن من المعلومات حول ذلك التعاون الذي لم يتوقّف إلى أن تدخلت الحكومة الأميركية ولو أن غيسلينغ بقي في هوليوود لبضع سنوات من دون أذى.
المبررات ماديّة
لكن ما يكشف عنه هذان الكتابان المهمّان ينقسم إلى مسألتين لا تقلان أهمية: الأولى أن الاستوديوهات الأميركية كانت مملوكة، كما ذكرت، ليهود ما يعني أنهم آثروا الصمت والتعاون على الرفض ومؤازرة اليهود الألمان المتعرّضين للاضطهاد (وبينهم كما يكشف دوهرتي الكثير من السينمائيين الذين إما منعوا من مزاولة العمل أو دفعوا للهجرة). والثانية أن السبب الرئيس في هذا الصمت كان سببا ماديا مفاده أن السوق الألمانية التي كان غيسلينغ يرفع راية التهديد بها كانت تدر الشركات الأميركية أرباحا جيّدة لم تشأ تلك الاستوديوهات المخاطرة بها، وهكذا فضلت تلك الاستوديوهات التجارة على الموقف السياسي والإنساني ولو مكرهة.
لكن غيسلينغ، كما يوضّح كلا الكاتبين على حدة، لم يكن وحده المسؤول عن توجيه هوليوود الثلاثينات صوب إلغاء ما له علاقة مناوئة مع السياسة والثقافة الألمانيّتين. في عام 1922 اتفقت الشركات الأميركية على تأليف جمعية تكون بمثابة المتحدّث السينمائي في واشنطن مع أي جهة إنتاجية أو صناعية أخرى. هكذا وُلدت «ذا موشن بيكتشرز بروديوسرز أند دستربيوترز أوف أميركا» Motion Picture Producers and Distributors of America التي ترأسها ويل هايز، والتي سنّت قوانين وأعراف عدها المثقّفون «رقابية» وعُرفت بـ«شيفرة هايز». هذه القوانين كانت ملزمة وثبت نجاعتها في إرشاد هوليوود لما هو مسموح تصويره وما هو ممنوع.
وكما يذكر كتاب دوهرتي، لكنه كان معروفا لدى كل الملمّين، فإن معظم الإرشادات تمحورت حول مسائل العري والجنس والأخلاقيات العامّة والألفاظ والعنف. وصار مطلوبا من الأفلام التي تصوّر، مثلا، الشرير كبطل اجتماعي، أن تلتزم بمفاد نهائي يغاير هذه الصورة المرتسمة.
لكن دوهرتي يكشف عن أن واحدا من الإرشادات المكتوبة كان ينص على «التعامل السوي مع تاريخ ومؤسسات الشعوب والحضارات لكل الأمم يجب أن يكون عادلا».
هذه مسألة في غاية الغرابة أولا لأن مراجعة قوانين هايز اليوم تكشف بالفعل عن وجود هذا التشريع، وثانيا لأنه كما يبدو أن طُبق على بعض الشعوب لكنه لم يُطّبّق بالضرورة على الشعوب العربية إذ حفلت الإنتاجات من الثلاثينات والأربعينات والخمسينات بالكثير من الأفلام التي صوّرت العرب (أفرادا وأحيانا كمجاميع) بصور مشينة وعدائية.
هناك قدر من التبرير يلف كتابي غيسلينغ ودوهرتي في نهاية المطاف: اليهود الذين هم في مواقع المسؤولية كانوا مضطرين للتجاوب مع الضغوط الممارسة عليهم من قبل الممثل الحزبي النازي ومن قبل المؤسسة الأميركية المذكورة (حكمها مسيحيون كاثوليكيون) لأن الجو العام في أميركا كان معاديا لليهود. بالتالي، كان مديرو الاستوديو من وورنر إلى ماير ومن لاسكي إلى غولدوين وزوكر، يحاولون التأكيد على انتمائهم الوطني لأميركا والظهور بمظهر المندمج وليس بمظهر المنفرد والغريب أو الأجنبي. هذا يفسّر، في قراءة صحيحة لناقد «ذا نيويوركر» ديفيد دنبي ذات مرّة، بأن إنتاج فيلم «مغني الجاز» (وورنر) كان تعبيرا حيّا عن هذه الإرادة فهو تناول حكاية يهودي من نيويورك يسعى للاندماج ونبذ العرقية اليهودية تحببا وتوددا مع الشطر الأعظم من سكان البلاد.
لكن إذا ما كان هذا صحيحا، كيف يمكن الحكم على الفترة التالية مباشرة من العلاقة بين هوليوود والنازية واليهود؟ الجواب (الذي لا يتطرق إليه الكتابان إنما لا بد من وروده هنا مواكبة للتحليل) أنه حال قررت واشنطن أن عليها محاربة النازية وحلفائها اليابانيين حتى جرى ضخ الكثير من الإنتاجات المعادية للنازية في الأربعينات. الأكثر غرابة، أن بعض هذه الأفلام كان يغازل الشيوعية.. هذا بالطبع قبل أن ينقلب تحالف الأميركيين مع الروس إلى خلاف لتنقض هوليوود على الشيوعية والنازية معا.
عن الشرق الأوسط / الطبعة الدوليَّة
التعليقات مغلقة.