الأكراد و «داعش»: لماذا هذان الإجماعان؟

44

حازم صاغية

استفتاء الأكراد هزّ العالم ووحّده ضدّ الأكراد. في إسبانيا، تحرّكت حكومة مدريد، المعنيّة مباشرة بالأمر، ضدّ مشروع الاستفتاء الكاتالاني. في العراق، العالم كلّه بدا معنيّاً. بعضه اعترض وبعضه ندّد وبعضه لجأ إلى التهديد المباشر.

 

يمكن فهم كلّ واحد من الأطراف على حدّة. لكنّها حين تؤخذ معاً يصير واضحاً أنّ تغيير صورة الشرق الأوسط لا يزال أمراً مرفوضاً. لا يغيّر في ذلك أنّ هذا الشرق الأوسط يستمرّ في عرض «مفاتنه» الدمويّة على العالم، اقتتالاً وحروباً أهليّة وانكشافاً للعجز عن إدامة الاجتماع الوطنيّ بأشكاله القائمة.

 

الذين كانوا يندّدون بـ «خريطة سايكس– بيكو» تمسّكوا بها. الذين كانوا يرحّبون بمبدأ «حقّ تقرير المصير» تحفّظوا عليه. أصوات سنّيّة في العراق استنفرت «العروبة». أصوات شيعيّة راعها الانفصال عن سلطتـ «ـنا».

 

هناك انتقادات كثيرة صائبة توجّه لقيادة أكراد العراق. لنوع النظام الذي ينوون إنشاءه. لقلّة الحساسية التي أبداها الاستفتاء حيال خصوصيّة كركوك. لكنّ أكراد العراق، وفي ما هو أساسيّ، تصرّفوا كمن يريد أن يدفن الميّت الذي شبع موتاً وأشبعنا عفونة. الآخرون متمسّكون بجثّة الميّت، يغسلونها مرّةً بعد مرّة من دون أن ينجحوا في إزالة رائحة العفونة.

 

الميّت الموقّر ليس دول الواقع القائم فحسب، بل أيضاً خطاب هذا الواقع: ففي معارضة حقّ تقرير المصير، لم تظهر فكرة واحدة لامعة، أو جملة واحدة مفيدة. الكلام هو إيّاه: «وحدة العراق. إسرائيل ثانية. التصدّي للإرهاب».

الحكومة العراقيّة، وهي أكثر المعنيّين مباشرة بالمسألة، كانت الأضعف خيالاً والأشدّ بكماً. هنا، في المقابل، بدت قيادة الإقليم الوحيدة التي طرحت في سوق التداول السياسيّ فكرة جديدة: دولة غير قوميّة تشمل غير الأكراد من سكّان إقليم كردستان، ولا تشمل الأكراد من غير سكّان الإقليم. إنّها الفكرة الوحيدة ربّما التي سمعناها في السنوات الأخيرة والتي تحاول اللحاق ببعض مستجدّات المنطقة، أي بتفسّخ الدول وتعفّن العلاقات الأهليّة في كلّ منها. أمّا أن يكون أحد أهداف هذه الفكرة طمأنة دول الجوار حيث يعيش أكراد، فهذا لا ينتقص من جدّتها وجدّيّتها. إنّه، فوق هذا، يمنحها مزيداً من حسّ السياسة الذي تستدعيه الأفكار. بيد أنّ الإجماع ضدّ الاستفتاء الكرديّ، وتالياً ضدّ الكيان الكرديّ المستقلّ، يذكّر بإجماع آخر تعيشه المنطقة: الإجماع ضدّ «داعش». وهذا، للوهلة الأولى، يبدو غريباً، إذ الأكراد و «داعش» خصمان في العراق وخصمان أيضاً في سوريّة.

 

لقد سبق أن رأينا شيئاً من هذا في التعاطي مع الثورة السوريّة. لقد قيل للسوريّين: كونوا ضدّ «داعش» واصمتوا.

 

فكأنّ الإجماعين، ضدّ الأكراد وضدّ «داعش»، مأخوذين معاً، يشيران إلى انعدام أيّ صورة تحرّر الشعوب لدى صنّاع القرار في الشرق الأوسط والعالم، ولكنْ أيضاً إلى انعدام أيّ صور عن المنطقة ومستقبلها: من جهة، تُختَصر الأوضاع والتعقيدات في نظريّة «الحرب على الإرهاب» بوصفها حدّاً أدنى يلتقي حوله متخاصمون ومتنافسون، كما يتستّرون على خصوماتهم ومنافساتهم. ومن جهة أخرى، عدم السماح بفتح ملفّات الاجتماع الوطنيّ وأنظمته السياسيّة، ما يضمن وحده مخرجاً سياسيّاً ممّا نحن فيه، مخرجاً أغنى وأبعد أثراً من «الحرب على الإرهاب». بلغة أخرى: المنطق السائد يقوم على إطلاق القتال وكبت السياسة. لهذا ضُرب أكراد العراق على يدهم حين حاولوا أن يفتحوا ملفّهم المزمن والمحتقن.

 

المؤلم أنّ إسرائيل الطرف الرسميّ الوحيد الذي أيّد الاستفتاء الكرديّ. والمؤلم أكثر أنّها، هي التي تمتنع عن حلّ مشكلة الفلسطينيّين ومشكلتها هي نفسها بالتالي، تملك التصوّر الأعرض لحلّ مشاكل جيرانها. وهذا بالتأكيد ينطوي على نفاق، لكنّه أيضاً ينطوي على تصوّر. ويُخشى أن يولّد ذاك الموقفُ الإسرائيليّ حبّاً كرديّاً للدولة العبريّة سبق للعرب أن اتّهموا به الأكراد قبل أن يصير حبّاً، ثمّ مضوا في التنديد دافعين الأكراد إلى ولهٍ بإسرائيل. وطبعاً سترتفع الأصوات العربيّة (والتركيّة والإيرانيّة) مستغربةً: لماذا يكرهنا الأكراد ويحبّون إسرائيل؟

 

المصدر: الحياة

التعليقات مغلقة.