هوامش عن مصائر الثورات

31

C2

 

 

 

 

 

 

 

يلفت الانتباه أن معظم أصحاب المزاج الثوري، لاسيما المنخرطين في الثورات أو في الحركات الثورية، تغلب عليهم تلك النظرة الخلاصية والحتمية واليقينية، التي تعتقد أن الثورات هي بمثابة خط مستقيم، وأنها ستنتصر حتماً، وستحل كل المشاكل، والأهم أن هذا الاعتقاد لا يبدو عندهم قابلاً للفحص أو المراجعة أو مجرد النقاش، بل أن ذلك الحديث عن هكذا امور هو مثار شبهة، على أقل تقدير.

المشكلة أن هذا الاعتقاد لا يصمد عند أي مثال، في تجاربنا الثورية العربية قاطبة، والتي تبدو فيها الثورات كأنها عصية على عالمنا العربي، فالثورة الأولى، المعروفة باسم الثورة العربية الكبرى (مطلع القرن العشرين)، والتي هدفت الى التخلص من السيطرة العثمانية، تمخّضت عن خضوع معظم البلدان العربية للسيطرة الاستعمارية. أما الحركات الوطنية، أو الاستقلالية، في البلدان العربية، فقد أدت إلى وقوع عديد من البلدان العربية الرئيسة (مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر والسودان) في قبضة الجيش، وآلت إلى قيام أنظمة دكتاتورية، ومستبدة بهذه الدرجة أو تلك. وفي العموم فإن معظم الأنظمة العربية، التي خلفت الاستعمار، نجم عنها حجز التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي، إذ لم تقم الدولة حقا، ولم يتمظهر المواطن الفرد، الحر، ما أدى إلى غياب مفهوم المواطنة، وبالتالي لم تصر مجتمعاتنا مجتمعات حقا، وهكذا ضاعت تلك الفترة من عمر عالمنا العربي، وهي الفترة ذاتها، التي استطاعت فيها دول أخرى، مثل تركيا وماليزيا والبرازيل، مثلاً، أن تنمو وتتطور وتضع نفسها على خريطة الدول الكبرى في العالم.

في مراجعة تاريخية موجزة، يمكننا ملاحظة أن تجربة الحركة الوطنية، التي صعدت في السبعينيات والثمانينيات، في لبنان، لم تكن ناجحة، إذ غابت او ضمرت تلك الأحزاب، التي كانت، في حين جرى تطييف المجتمع والسياسة، والحركات السياسية في هذا البلد. في اليمن اختفت ظاهرة اليمن الديموقراطي في الجنوب، فضلا عن انها لم تستطع تعميم خاصيتها على الشمال، في حين استطاع الشمال تعميم خاصيته عليه، والأنكى أن اليمن كله يبدو اليوم بمثابة رجل مريض، تتنازعه الحركات الطائفية والنعرات المذهبية والانقسامات العشائرية والمناطقية، وهو التوصيف ذاته الذي ينطبق على السودان وعلى ليبيا هذه الأيام. طبعاً ليس حال الجزائر بأفضل، فهذا البلد الغني بموارده تعرض لحرب أهلية، فضلا عن استنزاف ثرواته بسبب استشراء الفساد في طبقته السياسية.

في السياق ذاته، أيضاً، يمكن الحديث عن التجربتين السورية والفلسطينية. هكذا قد لا نجد شعباً قدم أكثر مما قدم السوريون من تضحيات وعذابات ومعاناة، في الأعوام القليلة الماضية، مع حوالى 200 ألف شهيد وأضعافهم من جرحى ومعتقلين، بالقصف من البر والجو، بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وألوف القتلى تحت التعذيب، وفي ظل الحصار وحوالى ثماني ملايين بين نازح ولاجئ ودمار مدن بأكملها. مع كل ذلك، فإن السوريين لم يحققوا بعد ما نشدوه في ثورتهم، التي عرفت بأنها الأبهظ والأكثر تعقيدا بين الثورات. القصد أن القصة لا تتعلق فقط ببذل التضحيات وتحمل العذابات وتقديم البطولات، فهذا يتطلب أيضا إدارة (أو قيادة) تدرك تعقيدات الثورة السورية، المحلية والدولية، وتدير كفاح شعبها وموارده بطريقة ناجعة، أي أقل قدر من الأكلاف لأكبر قدر من النتائج، ما أمكن. وهكذا، مازالت الثورة السورية تدور حول ذاتها، فرغم أن النظام خسر كثيراً، إلا أن الثورة لم تكسب ما خسره، وها نحن ازاء حالة تمزّق في بنية المجتمع، وإزاء هيمنة قوى متطرفة ومتخلفة وعنيفة. وفي الواقع فإن القوى الفاعلة في الثورة لم تنتبه، أو لم تتمعن بمغزى تعمد النظام استخدام استراتيجية قتل البيئات والمدن الحاضنة للثورة، ليس بتدميرها فقط وإنما بتفريغها من أهلها، وتحويلها إلى مناطق محاصرة. كما ولم يجر التمعّن بمغزى مغادرة الناشطين بلدهم، في حين يأتيها ألوف الغرباء للانخراط في الجماعات المسلحة «المتطرفة»، المنضوية في «القاعدة« وأخواتها، ولا بمخاطر الاعتماد على دول لا علاقة لها بثورات الحرية والديموقراطية.

هذا ينطبق، أيضاً، على الوضع الفلسطيني. فمنذ قرن، ولاسيما منذ انطلاق الحركة الوطنية المعاصرة، مازال الفلسطينيون يدورون حول أنفسهم، رغم الانجازات التي حققوها. فمن الصحيح ان إسرائيل تخسر هنا أو هناك، لكنها مازالت أكثر استقرارا وقوة، في نظامها السياسي واستقرارها الاجتماعي ومجالها الاقتصادي وبنيتها العسكرية، في حين مازال الفلسطينيون لا يستطيعون تثمير تضحياتهم وعذاباتهم، وبطولات مقاوميهم، إلى حقائق سياسية ناجزة، وذلك مع نصف قرن من الكفاح المسلح، وانتفاضتين كبيرتين. بديهي أن ثمة مسؤولية تقع على عاتق الوضعين العربي والدولي، لكن ثمة أيضاً مسؤولية تقع على عاتق القيادة الفلسطينية، وكيفية ادارتها لصراعها ضد إسرائيل، وهو ما ينبغي الاعتراف به واداركه والبحث فيه، أين كنا وأين صرنا ولماذا وكيف؟

والواقع فإن الفلسطينيين يبدون كأنهم يقاومون بتضحياتهم وعنادهم وتاريخهم، وربما أن هذه ميّزة أو مشكلة أو كليهما معاً. فهي ميّزة لأنها تعبّر عن حيوية شعب فلسطين ومقاومته لليأس، ودفاعه عن ذاكرته وتوقه للحرية والكرامة، وعن الأمل في قلبه لإطاحة المشروع الصهيوني. أما كونها مشكلة فلأنها تنطوي على الافتقار للسياسة، التي تتأسس على الاختيار الحر والمشاركة في تقرير الخيارات، والمساءلة والنقد والمراجعة والمحاسبة. وفي التجربة الفلسطينية، استفادت الفصائل من هاتين (الميزة والمشكلة) للهيمنة على المجتمع، وتأبيد مكانتها، مع افتقادها للعلاقات الديموقراطية والتمثيل والتداول وللحراكات الداخلية وللهيئات، التي تصنع القرارات، وتتفحص الخيارات، وتعتمد المساءلة والمحاسبة.

بالنتيجة ثمة استنزاف للثورات، ومحاولات لحرفها عن مقاصدها، أو تحميلها أكثر مما تحتمل. والمشكلة ان القوى الفاعلة أو المسيطرة في الثورات لم تدرك ذلك تماما، بل وربما استهواها، بظن منها أن ذلك يسرّع التغيير، رغم كلفته الباهظة، في حين كان المطلوب منها الحفاظ على سلامة مقاصدها، والتحكم بمواردها البشرية، والاقتصاد في تصريفها لقواها، في صراع يفترض انه طويل الأمد ومضني، ومعقد.

واضح أن هذه الثورات، على ضوء مآلاتها، كانت ومازالت أحوج إلى المراجعة والنقد والمساءلة، لأن اليقينية والروح العاطفية والحماسية تبدد الطاقات، وتبلد التفكير، وتشي بالتسليم للأقدار، في عمل يستدعي أقصى قدر من الحكمة، والتفكير والتدبير، سيما في شأن حسن استثمار الموارد، والمفاضلة بين الخيارات، على ضوء دراسات الجدوى، والموازنة بين المخاسر والمكاسب.

ماجد كيالي/ عن نوافذ

 

 

التعليقات مغلقة.