قصيدة النثر: ثورة على سلطة اللّغة..

50

13qpt896

 

 

 

 

 

 

 

لعلّ أهم ثورة شعرية حدثت في تاريخ الأدب العربي تمثّلت في قصيدة النثر، إنّها أهم ثورة لأنها القطرة التي أفاضت كأس السّجال النقدي حول مفهوم الشّعر، وتحديده، وتعيينه ممّا أبان عن مُمانعة كبيرة في احتكار تحديد الشّعر وفق أحكام مُطلقة تستندُ إلى ما يمكن اعتباره جزئيا وعرضيا ومُتغيّرا..
وانفلات الشعر هذا أربك بعض النظريات الشعرية ممّا جعل بعض المدافعين عنها يرفضون رفضا قاطعا هذا الشكل الشعري الخنثى، ويرون فيه مجازفة غير مضمونة، بل ومخرّبة للنسق الشعري المعتاد، تدمير للغة الشعرية وشطح بعيد عن قواعد اللعب في الرقعة المحدّدة سلفا للنص الشعري. ولعلّ هذا الرفض له ما يبرّره من وجهة النظر تلك، فقصيدة النثر كما يمكن فهمها وفق مرجعية القراءة والتلقي لدى الذهنية العربية، تكاد تكون في أصفى تجلياتها جنساً مُفارقاً وشاذا لا يقف عند رفض الإيقاع الخارجي فقط، بل و هدم المقوّمات الكلاسيكية التي ينهض عليها معمار النص وأهمّ أسسها اللغة الشعرية.
يمكن استنتاج مسألة في غاية الأهمية طبقا للنظريات السّائدة التي تهم تحديد الشعر وتعريفه وهي أنّ الشعر فنٌّ لغويٌّ، فنٌّ لا يقف عند استخدام اللغة مثلما تفعل اللغة العادية لإيصال المعنى مُباشرة، بل فنٌّ يخدم اللغة ويحمل المعنى من المباشر والبسيط إلى زخرفة لغوية فنيّة، بحيث يُستنفدُ المعنى الحيّ قوّته لثقل اللغة، فيتحوّلُ الأمر إلى الإعجاب بطريقة القول وهندسته العالية عوض تحسّسِ المعنى وعمقه. أي أن الشعر انصرف من التعبير الشعوري الإنفعالي الشّفيف الذي تومئ إليه كلمة «شعر» في الأصل إلى إغواء اللغة وكيدها وسلطتها. فعوض أن تخدم اللغةُ المعنى في قوّته الحدسية الشعورية والتبصّرية، تصبحُ اللغةُ خادمة نفسها وسيّدة نفسها في مطلق القول الشعري. وهو ما يستشفه جان بول سارتر في فصله المخصص للإجابة عن سؤال ما الكتابة؟ من كتابه ما الأدب؟ حين قال:» لا يستخدم الشاعر الكلمات بحال ولكنه يخدمها». وتتّفق معه مُختلف الدراسات ذات التوجه النقدي المعني بقراءة النص الشعري وتقييمه. فهي تنطلقُ من الكيفيّة التي يتعامل بها الشاعر مع اللغة باعتبارها العمارة الفنية التي إمّا أن يشوبها نقص أو تتعاظم قيمتها من حيث هندستها الشكلية المحضة. ومن ثمّة فهي المعيار الذي يُقاس به جمال النص وقوّته الفنية. ضاربة بذلك عرض الحائط، أو متجاهلة أبعادا أخرى، ممّا جعل الشّعر مكبّلا بالتعسّف الشكلي، بعيدا عن الجوهري فيه، والمضمون الذي لا يقل أهمية، والذي قد يتيحُ أصداء جمالية جديرة بالإنصات والمُحاورة حوارا شعريا عميقا. فالمضمون بين يدي الخلق الشعري يمكنه أن يتيح إمكانات هائلة وفيرة تقفز بالشعر إلى أبعد نقطة بلا صخب اللغة التي تلجم وتُعجز وثبة الشاعر وتقعده في كرسي إعاقة اللغة. يقول ميخائيل باختين في ردّه على المذهب الشكلاني الذي يمكننا وضعه بأريحية في المكان نفسه من النظرة النقدية السائدة: «إن المذهب الشكلاني يختزل مشاكل الخلق الشعري إلى مسائل لغوية، ويهمل المقومات الأخرى لفعل الخلق الشعري والتي هي المضمون أو العلاقة بالعالم».
إن هذا الإهمال ساق الشعر تأليفا وتنظيرا إلى تعريف قاصر وضيّق حيث تمّ تحديده في مقابلته بالكلام العادي، وهو تعريف بائس إلى حدّ بعيد لا يتوانى الشّعراء والدّارسون للشعر من تداوله على نطاق واسع إلى اليوم؛ بيد أنّ الشعر ليس كلاما فحسب، أو لغة، أو أبجدية ثانية، إنّه فنٌّ تعبيري يستخدم اللغة ولا تستخدمه يطيّعها ويمرّنها، وأحيانا يخفيها بنثرية واضحة لتتبع إيقاع النّفَس وارتخاءه. وفي ذلك فنيّة عالية، دقيقة ومعقّدة، في توليف يضعُ اللغة بلا إدّعاء في مكانها المناسب من مُجمل العمل الفني.
لم يكن التحوّل بشأن العلاقة مع اللغة في قصيدة النثر وليدا فقط من التوتّر الدائم بين الشاعر و لغته المخبرية التي حاول جاهدا إضفاء لمسة ذاتية وبصمة صوت خاصّة. -وهو عبء ثقل بفعل تراكم إستخدام بعض الكلمات المنتقاة التي جاءت منسجمة مع السياق الثقافي العام، و الانتقاءات الفنية والجمالية التي أقرها المجتمع الأدبي، واستساغها الذوق الفني السائد- بل نتيجة أيضا للآفاق الجمالية والمعرفية الفلسفية المفتوحة التي أتاحتها الإنتاجات الفنية والعلمية والفكرية المختلفة، عدا عن التجارب الشعرية العالمية، والتحوّلات الثقافية للمجتمعات في عالم اليوم.
نتيجة لهذا الوعي الشعري نشأت الرغبة في إيجاد فسحة للتعبير عن علاقة الشاعر بالعالم، تلك العلاقة المُباشرة والملموسة الحيّة موجدة بذلك واقعا شعريّا حيويّا عوض اللغة التي أفرزت واقعا لغويّا ومن ثمة شعريّا افتراضيّا. نافية بذلك ضمنيّا أيّ اختلاف نوعي في درجة الشاعرية بين النثر والشعر وهي النتيجة التي خلصت إليها الدراسات اللسانية الشعرية الحديثة.
ولعلّ المساحة الحرّة التي سمحت بها قصيدة النثر تلك، أتاحت إلى حدّ ما لشعراءها تجاوز معيقات إبستيمولوجية كثيرة مكّنت الانفتاح على مشكلات جديدة، ستقَيّمُ لاحقا قصيدة النثر تقييما جماليّا مؤسسا على أسس غير كلاسيكيّة. وإذا كان النقد اليوم خجولا إزاءها، فتفسير ذلك يعود إلى أنّه لم يُخلخل بعد ثوابته ومنهجيّته إزاء حالة مُغايرة تقترح نفسها كمعمار شعري جديد مختلف تماما.
هذا الموقف الخجول لم يعبّر عنه النقد فقط، بل إن الكثير من الكتابات الشعرية الموسومة بقصيدة النثر، لم تع جيّدا حقلها الشّاسع. فقد أتت إلى قصيدة النثر مُحمّلة بإرث ثقيل ووعي قاصر على تمثّل معين هذا الإقتراح الشعري الجديد، ونظرة غائمة ضبابية إلى العالم والشّعر، وبالتالي أنتجت نصّا هجينا لم ينعتق بعد من سلطة اللغة الشعرية، وأبعد ما بلغه هو التخلّص من الإيقاع الخارجي. ممّا يعكسُ كبوة قصيدة النثر في تلك التجارب، وتردّد شعرائها بين الهنا والهناك، بين الأمس واليوم، بين الإرث والمستقبل، بين السلطة والحريّة.
شاعر مغربي

منير الإدريسي / عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.