من لبنان إلى كردستان
بيار عقيقي
ماذا لو اختار إقليم كردستان الانفصال عن العراق في استفتاء 25 سبتمبر/أيلول المقبل، وقرّر الاستقلال بدولة مركزية عاصمتها أربيل؟ بالطبع، سيحقق أبناء الإقليم حلماً قديماً، وإن كان ناقصاً بالنسبة إليهم، لناحية جمع الأكراد في دولةٍ قومية واحدة. ناقصٌ، لأن أكراد سورية وتركيا وإيران وأرمينيا لن يكونوا من ضمن تلك “الدولة”. وأي “توسّع” مفترضٍ للدولة الكردية الجديدة، في حال قامت، سيُهدّد المدى الجغرافي والديمغرافي للدول القائمة، ما يعني، حكماً، تصادماً سياسياً ثم تصادماً عسكرياً، معروفٌ أين يبدأ، لكنه غير معروف كيف ينتهي.
المسألة أبعد من فكرة “الاستفتاء” بحدّ ذاته. بعض الشواهد في الشرق الأوسط، حتى الآن، لا تسمح بتشكيل دويلات جديدة. فحتى لو شُكّلت عملياً، بحكم الأمر الواقع، إلا أن تشكيلها عادةً ما يكون مرحلياً، قبل عودة حكم الدولة المركزية. في لبنان مثلاً، بين عامي 1975 و1990، أفرزت الحرب فيه مواقع سيطرةٍ لأحزاب وطوائف محدّدة، فكان جزء من لبنان تحت سيطرة النظام السوري، وجزء منه تحت قبضة الاحتلال الإسرائيلي. سكن معظم المسيحيين مناطق شرقي بيروت، ومعظم المسلمين في غربها. كان العبور من منطقة إلى أخرى في لبنان الصغير نسبياً (10452 كيلومتراً مربعاً)، أشبه بالعبور من دولةٍ إلى أخرى.
ساد وقتها اعتقادٌ بأن لبنان سيُقسّم وسيُصبح دويلاتٍ طائفية متناحرة. الأمر الذي لم يحصل، لأسبابٍ عدة، سياسية وعسكرية واجتماعية. في السياسة، تجاوز أمراء الحرب مفهوم “تقسيم لبنان من عدمه” لأسباب دينيةٍ أو عقائدية، إلى ترسيخ سطوتهم في مناطق نفوذهم، بالترهيب والترغيب. في الميدان العسكري، لم يتمكّن أي فريقٍ داخلي من حسم معركته ضد فريق آخر، على مستوى استراتيجي، لا مناطقي ضيّق، سوى في 13 أكتوبر /تشرين الأول 1990، حين تلاقت الإرادات الدولية والإقليمية على إنهاء حرب لبنان باجتياح القوات السورية ما تبقّى من مناطق لبنانية خارج سيطرتها، باستثناء التي كان يحتلها الإسرائيليون. اختار المحيط القريب والبعيد إقفال ملف حرب لبنان، للتفرّغ لحرب الخليج الثانية، بعد اجتياح العراق الكويت صيف 1990. مع ذلك، لم يُترجم الحسم العسكري، بصورة جغرافية لناحية تقسيم البلاد أو تجزئتها، بل عمد إلى إعادة توزيع الصلاحيات السياسية في النظام اللبناني، برعاية سورية ـ سعودية ـ أميركية في حينه. أما أهم ما كرّسته الحرب اللبنانية فهو أن من فكّر في تقسيم لبنان أدرك أن الأبعاد الإقليمية مؤثرةٌ للغاية على مسألة تقسيم وطنٍ ما. الجيوبوليتيك مهم في هذا الصدد، إذ لا تقوم قائمةٌ لدولةٍ جديدة، بمعزلٍ عن تعاطف دولةٍ جارة لها.
وإذا كان المفهوم السياسي والعسكري، والمحيطين القريب والبعيد، لم يسمحا في تقسيم لبنان، فإن الدافع الاجتماعي كان غريباً. تحرّك اللبنانيون في اتجاه “الآخر” بعد الحرب الأهلية، طوعاً أو كرهاً، لكنهم تحرّكوا. لا بل إن الحديث عن “فيدرالية” ما أو “تقسيم” ما، ولو على نطاق ضيّق، لا يعدو كونه ردّ فعلٍ محدّد على وضعية محدّدة أو خطاب سياسي محدد، من دون أن يتحوّل إلى جدول أعمالٍ معتمد. التقارب، مع كل السلبيات المحيطة، أمر يُصنّف بالغرابة، لكونه حصل من دون اعتماد اللبنانيين مبدأي المصارحة والمصالحة بعد الحرب على مستوى رسمي، بل اقتصر الأمر على جمعياتٍ أهلية ومدنية. صحيح أن الفارق كبير جغرافياً وديمغرافياً واقتصادياً بين لبنان وإقليم كردستان، إلا أن الخلاصة واضحة: لا يُمكن تأسيس دولة بمعزلٍ عن الإرادات المحيطة والأبعاد الجيوبوليتيكية.
بالتالي، الاستفتاء المنتظر في كردستان، في حال تمّ، يُفترض أن يؤدي إلى أمرٍ من اثنين: حرب ضروس يتفق فيها الأضداد الحاليون على الأكراد، لمنع قيام مثل تلك الدولة، أو في حال أسّس الأكراد دولتهم، تبدأ مرحلة بناء دويلاتٍ مماثلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من العراق إلى المغرب.
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.