كچێ… وغفوت.!
طه خليل
قالت لي الرسولة ومنذ البداية: ” انتبه.. فأنا قاسية جدا.” واعتقدت يومها ان القساوة شرط الوجود، فلتكن قاسية بما تكفي وجودها، وتحميه، فهي موكلة بأرض الكفر والزندقة السياسية والثقافية والاجتماعية، وكانت الإشارة إلى القسوة تطمئنني، انها لن تكون فريسة أحد، وان مرت بها ريح فلن تنهدّ كحائط قديم، وان هزّها حنين فلن تتقصف كريحانة، وان أهملتها يوما فلن تجزع ــ وأنا من أهمل حبيباته على الدوام ـ
كنا نناشد الليل لنستعير منه نجوما ولا نعيدها إلا حين ننام، وكان الليل ينتظر نجومه على مضض، كان إن حدث تفجير في أرضنا، اطمئن إليها آخر الناس، وإن حان يوم ميلادها أنساه، وإن مرضت لا أتذكر وردة لأرميها على سريرها، ولا ورد في أرضنا غير الورود البلاستيكية، وغير ورق “كلينكس” يتفنّن به باعة الأعراس فيقدمونه على شكل ورود بيضاء تحمله العروس بيدها، حتى تقضي ليلتها الصاخبة، ويتكوّم على أطراف الورد البلاستيكي هناك غبار حماة الدبكة الكردية، إذ يشتطّ بهم خيال حديدي يستعيرونه من مشروبات مغشوشة تباع سرّاً، وتُشرب سرّاً بعد ان يخلطها الشباب بكولا مغشوشة، فيختلط الأمر على الأهلين ويعتقدون ان الأبناء يكرعون الكولا في العرس، ولا يفهمون الحماسة والحرارة التي تزداد في عيونهم وخصورهم باستطراد.
الرسولة القاسية تنتظرني أياما ولا أمرّ إلا بخيالها شبحا هزيلا، وظلا نحيفا كعود جاف، تنتظر حتى أتذكر نعومتها، وأرمي سجادتي بين يديها لأصلي، وكمؤمن داخَله الشكّ أخطأ بالصلاة والتقدير، فلا أهتم بعدد الركعات، ولا بفواتح الكلام… وأتذكر أنا الذي بكى على النساء، وأهمل حبيبات مررن كالنيازك في ليل العزلة.
الرسولة القاسية لم تترك حيرتي تطول، اذ بدأت تذبحني بسكين لم تشحذه، سكين أعمى ومثلوم، ولم تنظر في عيني وهي تجحظ من ألم الجزّ البطيء، ومن بعيد يأتي إليّ صوت سلمان الموسى:
“يحك لي أسكن الوديان همالي.. وأرابِع الوحش وأصير مثلهم وحشي… لاخذ عالراس من غض الثرى واحشي… من عكب ذيج المعزة صرت أنا وحشي… واصبحت مفجوع هم أهلي وهم مالي… واوووه يا مال.”
لكن هذا ليس حزنا ولا قساوة، ولا خيبة أمل، بل تذكير بما قاله النوّاب ربما: ” مو حزن لكن حزييين.. مثل صندوك العرس.. ينباع خردة عشك، من تمظي السنين.”
ولم تمض ” السنين ” كل ما في الأمر اننا استبدلنا ” يوم العلم الكردي” ببوحنا حين احترقت وتنكست ملايين الأعلام في أعماقنا، مخضبة بالدم والحناء، ولم تمض إلا أشهر لتذكرني الرسولة بالقسوة التي عنتها وما أدركت، وها هي تباعد بين جيشين من سندس، وتبعدني عن الشامة قديمة، إذ توسّدت مع رعاة حنينها وماعزهم ظلّها الحنون، وأنا خجول إذ أرى الصحراء تخلو من عشب الطواف، كان صوتها رائحة العشب إذ تمرّ بها شفرات الصباح، هي كانت ضوء روجآفا، وفتنة الحرب، وكانت تعبر خيالي كسنونوة تعبر الغيم، كانت تقرب الموت مني.
كجى.. أما زالت أطرافك تضيء كحباحب الصيف، وحجارة الطريق تتألم إذ تمرين في الطريق، ويتألم سيراميك الدرج إذ تنتظرين، ويتألم المارة، والشال الحريري على كتفك، الشال الذي كنت دودة قزه.
أما زالت الفراشة ترمي ذهبها على يديك.؟
أما زلت تتمددين كسيف مضيء على سرير مخيلتي؟
أنا ما زلت اقطع الليل بسكين الانتظار، ، أنا الذي انتظرت خمسين سنة، وما وصلت، كل ما في الأمر انني غفوت عنك.. وسهتُ عن القسوة .. كجى وغفوت.
وتلك وحشتي.
نشرت هذه المادة في العدد 62 من صحيفة “Buyerpress”
بتاريخ 1/6/2017
التعليقات مغلقة.