بابان للسياسة ونافذة لحرب أردوغان على أكراد سوريا

39
علي العائد كاتب وصحفي سوري

علي العائد

سيحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارتيه المرتقبتين إلى كل من موسكو وواشنطن، في مايو المقبل، استمالة العاصمتين الداعمتين للأكراد في سوريا، لفتح جبهة حرب بين العدوين على الأرض السورية المستباحة سلفا من قوى إقليمية وعالمية.

في هذه الحرب، إذا حدث ذلك، سيتقاتل الطرفان بالأصالة عن نفسيهما، على عكس الحروب الأخرى على الأرض السورية. أما الجديد بالنسبة إلى الجيش التركي، فإنه سيقاتل خارج أرضه لأول مرة منذ انهيار السلطنة العثمانية قبل حوالي مئة عام، إذا استثنينا مشاركات هذا الجيش في القوى الأطلسية وفي قوات تابعة للأمم المتحدة.

سيحاول أردوغان في موسكو، وخاصة واشنطن، إقناع حليفيه القلقين بأهمية التحالف معه للقضاء على داعش، وقطع الطريق على أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي الذين أسسوا لعلاقات يظنونها قوية واستراتيجية مع واشنطن.

وتبدو بوابة تل أبيض في اتجاه الرقة المحطة المرشحة لبدء الصراع التركي الكردي المباشر، بعد أن اقتصر القتال بينهما في الشهور الماضية على القصف البعيد وعلى التهديدات، والاتهام بالتفجيرات في البعض من المدن التركية، بينما استمرّت حملة الجيش التركي على حزب العمال الكردستاني في جنوب شرق تركيا، ووصلت الغارات إلى جبال قنديل وشمال العراق، في أكثر من مرة.

أهمية تل أبيض بالنسبة إلى العدوين حاسمة، كونها تحتل موقعا هاما يربط بين ما يُسمى “مناطق الأكراد” في شمال شرق سوريا، امتدادا إلى الغرب على معظم الحدود الدولية السورية التركية، ما يعني أن سيطرة الأكراد عليها، وتثبيت الاسم الكردي (كري سبه) سيعني وصلا جغرافيّا بين شرق الحسكة وغربها في عين العرب – كوباني، وعفرين وتوابعها.

أما سيطرة تركيا عليها فستقضي على حلم إقامة كيان كردي، حتى لو كان فيدراليا، في شمال سوريا، بل حرمان الأكراد من حلم وصل “كردستان تركيا”، بما يحلمون بتحقيقه في ما يسمى “غرب كردستان”، أو “روج آفا”، حسب الأدبيات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي.

مبدئيا، مبررات العداوة بين الأكراد والدولة التركية قديمة، على عكس العلاقة بين عرب وأكراد سوريا، التي لا ترقى سوى إلى درجة عدم الثقة في أسوأ الأحوال، مع بعض الدم، والحقد المتبادل، نتيجة ميل القوة في السنوات الأربع الأخيرة في اتجاه الكرد، كونهم الأكثر خبرة في السياسة والتنظيم، بمساعدة مباشرة من حزب العمال الكردستاني الذي يخوض في السياسة والسلاح منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي على الأقل، بينما ظل أكراد سوريا وعربها أسرى القمع البعثي، فلم يتمكنوا من بناء قدرات تنظيمية وإدارية هم في أمس الحاجة إليها منذ مارس 2011.

إذن، وجد أكراد سوريا من يأخذ بيدهم من أبناء جلدتهم في تركيا، في السياسة والسلاح والإعلام، واستغلوا وجود فزاعة داعش ليقنعوا الأميركان بإمكانية التعاون معهم، وهذا ما حصل.

أما العرب فلا تنظيم ولا سلاح لديهم، ولذلك هم في حاجة لكسب الوقت ريثما يستطيعون تنظيم أنفسهم ليتمكّنوا من إقناع إخوانهم الأكراد أن انتزاع “الحقوق” لا يتم بالقوة في الظرف القاهر الذي تعيشه سوريا في ثورتها اليتيمة، وإذا حدث ذلك لن يستقر الأمر للغالب والمغلوب، وستتناسل العداوات لأقل الأسباب وجاهة.

في معركة كسب الوقت تلك، يبدو أن عرب الجزيرة، عموما، “مضطرون” للترحيب بالدور التركي المفترض، مثلما وجد الأكراد أنهم “مضطرون” لاستغلال فرصة الفوضى السورية لتحقيق حلم “الدولة”.

وهنا، لا بدّ أن يدرك العرب أن تركيا لا تقدّم خدمة مجانية لهم، ما يقتضي الاستعداد مستقبلا للوقوف في وجه تركيا كي لا تستولي على الأرض بحجة منع الأكراد من التمكن منها.

ولأن سعي أردوغان إلى التفاهم مع المتدخلين الكبيرين في سوريا لن يكون بلا ثمن، يتوجب عليه إقناع واشنطن وموسكو بقدرته على تشكيل تحالف مع الجيش السوري الحر لمحاربة داعش دون وجود الأكراد، ودون دور للنظام الأسدي في هذا التحالف، لأن موقف العاصمتين من النظام غير صريح بما يكفي حتى لإقناع بشار الأسد نفسه بالصداقة الروسية، أو بالعداوة الأميركية الصريحة، ناهيك عن إقناع الأطراف الأخرى في سلسلة المتدخلين الآخرين:

– أولا، واشنطن تمتلك الورقة الكردية في يدها، فما البديل الذي سيقدّمه أردوغان؟

– ثانيا، إذا أقنع أردوغان واشنطن بجدارته، فكيف سيقنع موسكو، وليس لديه ما يقدّمه للطرفين معا؟

– ثالثا، إذا مضى أردوغان في صفقة شراء المنظومة الروسية المضادة للصورايخ إس 400 من موسكو، فهل سيستخدم ذلك لإقناع واشنطن بدعمه مقابل إعادة تفكيره بتلك الصفقة؟ وهل لدى موسكو مبررات عسكرية أو اقتصادية لإغراء أنقرة بإتمام الصفقة؟ مع التنويه إلى أن المنظومة موجودة في سوريا لاستخدامات الحامية الروسية في حميميم، وموجودة في إيران سلفا، بعلم وتفهم من إسرائيل التي تمتلك منظومة باتريوت الأميركية الأكثر تطورا، بالإضافة إلى المنظومة الإسرائيلية (حيتس “السهم”).

– رابعا، لا يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عجلة من أمره للتدخل في سوريا وإنهاء الصراع فيها، سلما أو حربا، وبالتالي سيتعيّن على أردوغان الانتظار أكثر ريثما يعطي ترامب الضوء الأخضر لتدخل تركي انطلاقاً من الشراكة الأطلسية.

وفي هذه الحال، ليس أمام الرئيس التركي سوى مواصلة حرب الاستنزاف ضد المقاتلين الأكراد، في تركيا والعراق وسوريا، على الرغم من الاحتجاج الكردي الأخير على الهجمات التركية ضد مواقعهم في سوريا، ومطالبة أميركا بفرض حظر جوي على الطيران التركي في شمال سوريا.

تبقى مسألة أساسية ترسّخت نتيجة توزع الشعب الكردي في أربع جغرافيّات مختلفة، ضمن نظم سياسية، وتشكيلات اجتماعية، مختلفة أيضا، خلال أكثر من مئة عام من الوعي الكردي لفكرة الاستقلال.

وخلال ذلك، حصل للأكراد ما حصل للعرب في أقطارهم المستقلة، فبلاد الشام، مثلا، المعروفة تاريخيا بالوحدة الجغرافية والبنيان الاجتماعي المتقـارب، تباعدت شـيئا فشيئا بعد رسوخ سايكس بيكو، وأصبح لدى اللبناني والأردنــي والفلسطــيني والسوري نزعة استقلالية و”نعرة قومية” تجاه المكوّن الآخر الـ”بلاد شامي”.

وينطبق الأمر على جميع الدول العربية المستقلة بعد الحرب العالمية الثانية. وترسخ هذا الأمر بنمو فكرة الأخ الفقير والأخ الغني مع صعود ظاهرة النفط التي رسخت الغنى في الدول النفطية، بالتزامن مع توسع الفجوة بين فكرة الغنى المادي وفقدان فرص الاستقلال الحقيقي والتقدم الحضاري. ولا خلاف اليوم على أن النفط شكل نوعا من لعنة مازالت تلقي بظـلالها على علاقات الدول العربية ببعضها البعض، وخاصة بين المتشاطئة منها جغرافيّا.

وينطبق الأمر على الأكراد، على الرغم من عدم وجود دولة كردية في مناطق وجودهم الأربع، فالاختلافات الثقافية واللغوية تركت أثرها في ازدياد الفجوة بين أكراد كل من العراق وتركيا وإيران وسوريا، ناهيك عن الخلافات المتولدة عن اختلاف قيادات الحركة السياسية الكردية في كل من البلدان الأربعة، ما ولّد نوعا من “النعرة القومية” التي يدركها الأكراد أنفسهم حين ينتقلون من إقليم إلى آخر، وخاصة إذا كانوا مضطرين للجوء بسبب الحرب على سوريا. بالطبع، يشعر بذلك الفقراء اقتصاديّا أكثر من غيرهم، خاصة أن الفقر غربة حتى في الوطن نفسه.

هذه الفكرة ملاحظة ولا شك من أردوغان، ومن أكـراد سوريا، لكن كلا الطرفين مضطر لمعاداة الآخر، فأكراد حزب العمال الكردستاني مساهمون بقوة في تحركات حـزب الاتحاد الديمقـراطي، سياسيا وعسكريا، مع إدراكهم أن أكراد تركيا وأكراد سوريا، باستثناء “صفاء الدم”، مختلفون.

أما أردوغان فليس أمامه تجاه ذلك سوى رد الفعل وإعلان الحرب على الأكراد في سوريا، ليدافع الأكراد عن أنفسهم برد فعل أيضا، وليتحالف الجيش الحر مع أردوغان وفقا لاتفاق الضرورة.

أما نحن، فلا مفرّ أمامنا سوى الإقرار أن خيوط اللعبة مازالت في يد روسيا، حيث سيلتقي أردوغان بوتين في سوتشي يوم 3 مايو المقبل، وفي يد أميركا، حيث سيلتقي أردوغان ترامب خلال زيارته لواشنطن يومي 16 و17 مايو المقبل.

العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.