جنيف ….والخيارات المتاحة

41
حسن جنكو
حســــن جــنكـــو

قَبِلَ السوريون خيار الحل السياسي واللجوء إلى المفاوضات في جنيف 1-2-3-4؛ في مسعى منهم لوضع حدّ للأزمة التي تعيشها بلادهم التي كلّفتهم الكثير من التضحيات، لكن هذا الخيار لم يكن مجرد مشاركة في حضور تلك اللقاءات طالما لم تتكون بعد الرغبة الحقيقة لدى أطراف الصراع للدخول في مفاوضات حقيقية وبنّاءة لإيجاد مخرج يوقف مسلسل القتل والتدمير في سوريا بعيداً عن نزعة الثأر والانتقام التي كانت مع الأسف السمة الأبرز في سلوك ومنطق المفاوضين من جانب المعارضة والنظام على السواء.

إذاً، عوضاً عن التمهيد للحل في كل لقاء يجمع طرفي الصراع، كانت الأوضاع تتجه نحو مزيد من التعقيد ليحصد منجل الموت المزيد من الأرواح، وحتى وضع العراقيل أمام المنظمات الدولية لتعطيل دورها لإغاثة المدنيين أو انتشال وإسعاف المصابين.

طرفا الصراع، المعارضة المسلحة وكذلك النظام لم يوفّرا الأسباب التي من شأنها تخفيف العبء عن السوريين، وإبعاد شبح الموت عنهم، فكان التأجيل أو التجميد لجولات تالية من المفاوضات هي النتيجة والحصيلة عقب كل جولة، ما عزّز لدى المواطن السوري المتابع لسير المفاوضات فقدان الثقة والأمل بجدوى هذه المفاوضات رغم الرعاية الدولية.

كل طرف يسعى في الميدان إلى تحسين شروطه، ويحاول في سباق مع الزمن إضعاف الآخر، مع أن كفّة الميزان كانت تتأرجح بعد كل جولة لصالح النظام مدعوماً من حلفائه الذين قدموا له ما بوسعهم لإنقاذ حليفهم الذي يخرج كل مرّة على الصعيدين السياسي والعسكري بهيئة المنتصر؛ بالنظر إلى المعارضة التي فقدت شيئاً فشيئاً رصيدها المادي والمعنوي بعد أن خضعت لشروط حليفها التركي (الداعم الأساسي) في معركتها مع النظام، ولم تقتنع أو تراجع حساباتها بأن ما يجري في أروقة السياسة الدولية فيما يخصّ الأزمة السورية لا يخرج عن نطاق التسويف والتمديد، أو استئناف العمليات القتالية طالما -المعارضة- لم تتسلح بعد بالكفاءة والمشروع الوطني الذي يستظلّ بظلّه كل السوريين وبمختلف مكوناتهم وشرائحهم القومية والدينية، بالإضافة إلى الحسابات الإقليمية التي تسعى لأن تكون الحلول وفق معاييرها ومقاساتها، وأن القوى الكبرى المتمثلة بروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، هي الأخرى غير جادة بعد لوضع حدّ لهذه الأزمة إذا استثنينا روسيا قليلاً إن لم نقل هي الأخرى لم تقتنع بعد بإيجاد حل ضامن يمكن أن يقبل به أطراف الصراع من السوريين وغيرهم.

تعقيدات تتراكم وتتزاحم في المشهد السوري، ما يوحي باستحالة تحقيق أي حل في المنظور القريب رغم الاتفاق في جنيف 4 على البنود الأربعة: الانتقال السياسي، الدستور، والانتخابات، ومحاربة الإرهاب كخطوة أولية ونظرية، لكن من أين تبدأ الخطوات الإجرائية والعملية؟ من الانتقال السياسي الذي يرفضه النظام، أم من محاربة الإرهاب، الخطوة التي يستحيل قبولها من جانب المعارضة، لاسيّما الهيئة العليا للمفاوضات المتمثلة بوفد الرياض.

أغلب الظن الجولة القادمة في الثالث والعشرين من الشهر الجاري لن تكون سوى محطة تجميد للأوضاع سياسياً، ولاستئناف العمليات العسكرية على الأرض، وأن مصيرها لا يختلف عن مصير سابقاتها، وأنها أي جنيف باتت محطةً لتزويد الوقود لإشعال الجبهات بدلاً من أن يكون منبراً للحل ووقف القتال.

في المسار الآخر يبدو أن حفاوة أستانة بين الضامنين لوقف الأعمال القتالية يفسدها تضارب المصالح والمقاربات المتباينة ليعود كل فريق إلى خندقه دون إيلاء الاهتمام اللازم بما تمّ الاتفاق عليه لترتيب أوراقه من جديد، وما يمكن فعله للفوز بالغنيمة التي تضاهي حجم إنفاقه وتضحياته ليكون شريكاً مهماً في التسويات.

 روسيا التي أنقذت النظام وقدمت كل أشكال الدعم والإسناد له لا يمكن أن تتخلى عن الثمن والمقابل عند تقاسم الحصص بما يرضي إيران التي تطمح لتحقيق مكاسب متميزة؛ وأسست كذلك لعلاقة استراتيجية طويلة الأمد في سوريا، وعملت على بنائها لعقود من الزمن، ومن الصعب أن تخرج من الساحة ومن التفاهمات دون تحقيق مكاسب تتناسب مع دورها، أما تركيا التي كانت تخطط لإسقاط النظام ليحل محله حلفاؤها من المعارضين ذوي  التوجه الإسلامي أخفقت في مسعاها لا بل تفاجأت بصعود PYD وتحقيقه نجاحات كبيرة في السيطرة على مساحات واسعة من الشمال والشمال الشرقي من سوريا على طول حدودها الجنوبية ، ليبقى هاجسها الوحيد إزاحة هذه القوى وإنهاؤها، وإن لم يتيسر لها ذلك محاولة منعها من تحقيق أي مكسب، وإبعادها عن المشاركة في أي لقاء أو مؤتمر يفضي إلى حل بشأن الأزمة السورية.

إذاً، الحلفاء المتنافسون على تقاسم الحصص والأدوار لم يجمعهم قاسم مشترك –على الأقل في الوقت الحاضر- يمكن أن يسهم في إيجاد حل مناسب ومقبول وبما يرضي أيضاً الأمريكي الغائب الحاضر عن تعقيدات المشهد السوري المتعدد الأبعاد.

كل لاعب يتحرك حسب المسار الذي يضمن أو يحقق له بعض المكاسب قبل فوات الأوان، فأردوغان الذي يقضّ مضجعه تقدم قوات سوريا الديمقراطية والمعتمدة لتحرير الرقة، لا يكفّ عن طرق أبواب العواصم المعنية في مسعى منه للجم القوات الكردية مهما كان الثمن، فزياراته المكوكية قد تقذفه غداً أو بعد غد لطرق أبواب دمشق لقصّ أظافر الصاعد PYD بعد أن ضاقت به السبل ومساحة المناورة، لاسيّما بعد انتشار القوات الأمريكية في محيط منبج ، وأوحت له بالتوقف عند الحدود الجنوبية لمدينة الباب السورية.

التعقيدات الفائقة التي رافقت تشعبات الأزمة السورية، ألقت بظلالها على الوضع الكردي الذي لم يعد يختلف كثيراً عن تناقضات وإشكاليات المعارضة السورية، وتعاني الحركة الكردية هي الأخرى من عدم التوافق والانسجام، لتسير أيضاً باتجاهات متباينة ومتباعدة، فإذا كان البعض استحلى حال الغريق الذي يتمسك بقشّة النجاة، فإن البعض الأخر ينتظر مسلوب الإرادة و المبادرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وآخر يسعى وبكل الاتجاهات ومع كل الأطراف قبل أن يقع الفأس على الرأس لكن دون مجيب، بحيث يغني كل على ليلاه دون أن يلوي على تداعيات المنجز.

بانتظار المفاجأة المؤلمة التي لا تستثني أحداً، لابد  من العمل والبحث لإيجاد الحامل الوطني والواقعي المنفتح على كل السوريين، وبصناعة وإرادة سورية وطنية جامعة، يمكن أن تدفع القوى الدولية الفاعلة باتجاه إسناد الحل الوطني السوري، بعد تلقيها رسائل من كافة أطياف المعارضة في الداخل والخارج، ومن خلال مؤتمر وطني بأنها قادرة ومستعدة على بناء مرجعية سورية مؤمنة بالحل الواقعي الضامن لحقوق السوريين على اختلاف انتماءاتهم القومية والدينية؛ لاسيما القضية الكردية التي تستدعي حلّاً عادلاً كقضية لثاني أكبر مكون سوري يجب أن يتمتع بكافة حقوقه القومية المشروعة، وبضمانات دستورية، يتفق عليها السوريون بعيداً عن الحلول الترقيعية والتجزيئية التي يدعو إليها البعض ممن أصبحوا كعقبة أداء أمام أي حل ينصف السوريين ، ويخرج البلاد من هذا المأزق الخطير، من دون توفّر هذا العنصر الواقعي الضامن لحقوق كافة السوريين لا يمكن أن تتكون الرغبة الحقيقة لدى الروس وغيرهم من الفاعلين من لعب دور إيجابي أو المشاركة لإيجاد تسوية سياسية لهذه الأزمة التي ينبغي أن تتوقف، وألّا تستمر أكثر من ذلك .

لا تزال الفرصة مواتية وممكنة للعمل بهذا الاتجاه وهكذا خيار قبل فوات الأوان مع مضي القاطرة، وتوالي الأحداث، ليأتي اليوم الذي نقبل فيه بحلول وخيارات الآخرين مرغمين على مبدأ مكره أخاك لا بطل.

نشر هذا المقال في العدد “61” من صحيفة Buyerpress تاريخ 15/3/2017

2

التعليقات مغلقة.