جرن الذاكرة.. حامـد بدرخان الشاعر المَنسي

126
جرن-الذاكرة
الشاعر حامد بدرخان

 

ولات-احمه
زاوية يكتبها: ولات احمه

أشعث الشعر، مقفول الحاجبين، يجتمع الحزن في حقول إطار وجهه، يراوده الأرق والكآبة على الدوام، وكأنه يحمل على كتفيه كل بؤس العالم، عموم ألم الفقراء، ومعاناة المناضلين، وفي تمام اللحظة يكون مصدراً للرقة والبساطة والحب، تغرد أنامله على وتر جمال المفردات، تبدع في صناعة الكلمات.

الشاعر حامد بدرخان، اسمه وفق السجلات “حميد مراد حسن خضر”، والدته أليفة، ولد عام 1924، في قرية شيخ الحديد “شيّيه- Şîyê” إحدى قرى مدينة عفرين، غادرها مع أسرته الفقيرة وهو طفل إلى تركيا، بسبب الضغوطات من قبل خصومهم الآغوات في القرية الذين قتلوا جده، ليستقروا في منطقة حدودية قريبة من سوريا تدعى “قرقخان”، درس في مدارس تركيا حتى نال الشهادة الثانوية، ومن ثم تخرج من كلية الآداب، قسم اللغة التركية، بجامعة استانبول.

حامد، كيان مُشبع بالسياسة، مرتوي من الثقافة حتى الثمالة، واسع الفكر، قارئ للتاريخ، يكتب عن وحشية الإنسان مهما كانت خلفيته القومية والدينية، عاصر سلاطين الفكر والثقافة في تركيا، وانخرط معهم في الحياة السياسية والأدبية، كما درس اللغة الفرنسية في إحدى معاهد اسطنبول، نشط في السلك الصحافي، فعمل محرراً في جريدة “صباح الخير” ذات الصبغة اليسارية الأممية، وكان ينشر ويكتب تحت اسم “حميد أراغون”، حباً وتيمناً بالشاعر والروائي الفرنسي لويس أراغون. وكذلك ليستخدمه اسماُ مستعاراً خشية الملاحقة من قبل الأمن التركي.

آنذاك، كانت السياسة التركية الخارجية موالية للمنظومة الاشتراكية “الاتحاد السوفييتي”، حينها كانت له علاقات متينة مع اليسار التركي، فشارك في تأسيس الحزب الشيوعي التركي مع رفاقه ناظم حكمت، عزيز نيسين، عابدين دينو، صلاح عدولي، ممدوح سليم.

سافر إلى فرنسا برفقة صديقه “عابدين دينو” لم يقم فيها فترة طويلة فقرر العودة إلى تركيا. ومع نهاية الحقبة الرئاسية لمصطفى كمال أتاتورك انضمت تركيا إلى المعسكر الغربي وتخلت عن المنظومة الاشتراكية، فأصبح نشاط مجموع الأحزاب اليسارية والشيوعية محظوراً، حيث منعت السلطات كل النشاطات السياسية الموالية للاتحاد السوفيتي، وشدّت الخناق على الشيوعيين الأتراك، وضربتهم بيدٍ من حديد، ومارست سياسة كم الأفواه، وزجّ الساسة في أقبية السجون، فتعرض حامد بدرخان مع رفاقه للاعتقال.

في عام 1947، تمكن حامد بدرخان من الهروب من سجنه في أنقرة بترتيب من رفاقه والعودة إلى سوريا، حيث كان محكوماً عليه بالإعدام على خلفية مشاركته في تأسيس الحزب الشيوعي التركي. قاطعاً مسافات طويلة بين الجبال والوديان، إلى أن وصل إلى مسقط رأسه “شيّيه” وبحكم قربها من الحدود التركية، توجه نحو العاصمة السورية دمشق، حتى يكون بعيداً عن ملاحقة الأمن التركي.

في دمشق، عمل في مجالات عدة، فكسب قوته اليومي من العمل في حفر الطرقات وترميمها. هناك تعرّف على نخبة من القامات الأدبية والثقافية الكردية والسورية “علي الجندي، عبد الرزاق عيد، وحيد استانبولي، حنا مينه ونجاح العطار”. وكذلك الأمير جلادت بدرخان، الذي عرض عليه تغيير اسمه من “حميد أراغون” إلى “حامد بدرخان” حتى لا يراوده الخوف من الملاحقة الأمنية، ويشعر بالراحة والطمأنينة. وكان ذلك بعد أن سرد حامد بدرخان سيرته المأساوية على مسامع جلادت.

في عام 1951عاد حامد بدرخان إلى قريته “شيّيه”، وفيها تعرّف على السيد رشيد عبد المجيد، الذي علمه اللغة العربية. توطدت العلاقة بينهما، وتعرف على زوجته نازلي خليل، حتى بات حامد فرداً من أسرتهما. نازلي خليل، السيدة الراقية، الجميلة، تحب الأدب والفن، تعشق الشعر، تكون دافع وطاقة إيجابية لكل الموهوبين، والتي جعلت من منزل زوجها في مدينة حلب ملتقى للأدباء والمثقفين، حتى غدا صالوناً أدبياً على الدوام، يرتاده الرعيل الأول من المثقفين والأدباء آنذاك.

نازلي، كانت بمثابة اللّبنة الأساس لإحياء وتأسيس مشروع حامد بدرخان الشعري، والدافع الرئيس في نفخ الروح في إبداع أحرفه ومفرداته، بل أصبحت الملجأ الآمن لاستقراره النفسي، فسعت لانتشاله من حالة اليأس المفرطة، ودفعت به نحو ميادين الشعر، وشجعته على الكتابة باللغة الكردية، حتى باتت مصدر شغفه، وملهمته الشعرية. بذلك فاض بينهما حب عذري، أخذ حيزاً مهماً من حياة حامد، وظهر ذلك جلياً حين قام بإهدائها ديوانه الأول “على دروب آسيا” عام 1983. ولاحقاً، ترك لها تفويضاً خطياً بأحقية التصرف الكامل بكل ممتلكاته وأمواله، والاحتفاظ بأرشيفه، وبطبع ونشر كافة أعماله الشعرية وحتى في اختيار طريقة دفنه.

ذاق التهميش والهجران من قبل أبناء جلدته، على خلفية نشاطاته وقناعاته اليسارية الأممية بعيداً عن النضال القومي الكردي وفق زعم الحركة السياسية الكردية. فهاجمته الحركة السياسية الكردية من جهة، وتصادم مع نخبة من الأدباء والمثقفين الكرد من جهة أخرى. ولربما كان الصراع الأدبي الأبرز مع الشاعر الكردي جكرخوين الذي كان يؤكد لحامد بأن الأولوية في النضال والعمل السياسي هي للقضية الكردية وليست للنضال الأممي. وامتاز ذلك الصراع الأدبي بمناظرات وسجال شعري مغلف بلغة أدبية شعرية راقية بعيداً عن الصراع اللفظي الفج.

تناول الشعر بلغة سلسة سهلة، لغة يومية، عميقة المعنى، قريبة من المتلقي، اعتمد على تفجير الكلمة والصورة، بعيداً عن البحور والأوزان والقوافي، استخدم ووظف في التركيبة الشعرية إسقاطات ومدلولات لها بُعد راقي عميق، تصبو نحو مفاهيم الحرية والكرامة، الحب والإنسان، السعي نحو الجمال، تذوق الأمل والتفاؤل. متغنياً بمعانقة أغصان الزيتون، بهامات سنابل القمح، بنضالات الشعوب في وجه القهر والاستبداد والتمييز الطبقي.

نتاجه الأدبي، ثلاثين ديواناً شعرياً، منها خمسة عشر ديواناُ باللغة التركية واثنين باللغة الكردية، وأحد عشر ديواناً باللغة العربية. بالإضافة إلى قصائد منشورة على صفحات الصحف باللغة العربية، التركية، الفرنسية والكردية.

توفي على أحد أسرّة مشفى حلب الجامعي في 29 نيسان/ أبريل 1996، ودفن في مسقط رأسه، صومعة الفكر “شيّيه”، وهو يردد آخر كلماته: “لا أريد ان أعيش على حساب الأخرين، أريد ان أموت بريئاً وليس قاتلاً، أنا من الهنود الحمر، أنا من فلسطين، أنا من سلفادور، أنا من ديرسم، أنا من مهاباد، أنا من شقلاوة، أنا من تشيلي، أكره كل أولئك الذين يسرقون أرضي و خيراتي”.

 

نـُشرت هذه المادّة في العدد 59 من صحيفة Buyerpress تاريخ 15/2/2017

06

التعليقات مغلقة.