في الوسيلةِ والغايةْ

32

 

%d8%a8%d8%af%d9%88%d9%86-%d8%b9%d9%86%d9%88%d8%a7%d9%86-2
خالد عمر

(الغايةُ تبرّرُ الوسيلة) كثيراً ما نسمعُ بهذهِ العبارةِ الّتي يردّدُها الكثيرُون وفي شتَّى مجالاتِ الحياة, بل إنّ تبّني هذا المبدأِ قد وصل عِند البعض لِدرجة أصبحتْ فيها الغايةُ تبرّر الوسيلةَ التي أدّت إلى بُلُوغِها مَهمَا كانَت تلكَ الوسيلةُ متّسمةً بالبَشاعةِ والبعدِ عنِ الأخلاق والآداب والبعد عن كافَّةِ معايير الخير, ناهيكَ عن أنَّ الغايةَ نفسَها وفي كثيرٍ منَ الأحيان ربَّما لا تكون أقلَّ بشاعةً عن تِلك الوسِيلة, فنُصبحَ أمامَ ثنائيّةٍ شرَانيّةٍ (شرّ- شرّ) نتَجَتْ عَن تَفاصيلِها وتَطبِيقاتِها سابقاً والآن على أرض الواقع أهوالٌ ومآسٍ بحقِّ الشّعوبِ وَالمجتمعات دامَت وَسيدومُ تأثيرُها لعقودٍ بلْ وَلِقرُون, صاحِبُ هذِهِ المقُولةِ أو هذا المَبدأ هوَ نيكُولا ميكافيلّي الفَيلسوفُ والمنظّرُ الإيطاليُ المَولودُ في مَدينةِ فلورَنسا بعدَ منتصفِ القَرنِ الخامسَ عشَر وَصاحِب كِتاب (الأمير) الّذي جمعَ فيه ميكافيلّي عصّارةَ تجرِبتِهِ الحياتيِّة وَعَمَلِهِ في السِّلكِ السِّياسِي على هيئةِ نصائحَ وإرشاداتٍ للحُكّامِ والرُّؤساءِ والقادةِ يعلّمهُم فيها كيفَ يجَب أن يتَعاملُوا معَ الشُّعوبِ والمُجتمَعاتِ وذلكَ بالضربِ بيدٍ مِنْ حدِيد وسَحقِ أيَّةِ مُحاولةِ انتفاضٍ أو رفضٍ للسُّلطةِ القائِمةِ أو بَعضٍ مِنْ تَصرُّفاتِها, زبدةُ تِلكَ الإرشاداتِ هيَ أنَّه يتَوجَّبُ على الحَاكمِ والأميرِ والرَّئيسِ أن لا يَتُرك وَسيلةً – مَهما كانَت – لِيلجَأ إليها في سَبيلِ الحِفاظِ عَلى “الدّولة” وعَلى “البَقاء في السُّلطة” مُتذَرّعَاً بأنَّ التَّاريخَ لا يُسَجّل الوَسائلَ وإنّما يُسَجّلُ الغاياتِ فقط وَكأنَّه يَقولُ أنَّ  للحكَّامِ أنْ يَقتلُوا ويَفتِكُوا ويَرتكِبوا المَجازِرَ وَالإباداتِ في سَبيلِ غَايةٍ هيَ الإبقاءُ عَلى الدَّولَةِ والاستمرارُ في السُّلطةِ وَالحُكمْ, فالتَّاريخُ بحَسبِ ميكافيلّي لَن يذكُر ويُسجّل هذه التَصرُّفات (الوسائِل) ولكنَّهُ سَيسجّلُ وَيحاسِبُ الحَاكم المُتَراخِيَ أو بالأَحرى الَّذي يضَحّي بالسُّلطةِ وَهَيبة الدَّولةِ بمُقابِل تَحقيقِ مُطالَباتٍ شعبيَّةٍ ومُجتمعيَّة.

لَقد حرَّض ميكافيلّي الحُكَّام على قَتلِ الأَبريَاءِ بما في ذلكَ قتلُ الأَهلِ والأَقاربِ وأجازَ لَهُم اللُّجوء إلى النّفاقِ بالظُّهورِ بمَظهَرِ العَادلِ والديمُقراطِي والتَّصرُّفِ بعَكسِ ذلكَ وَدُون خَجلٍ أو ارتِداع, باختصار فقد برَّرَ لَهُم وأجازَ اللُّجوءَ إلى كُلِّ ما هُوَ مُنافٍ للطَبيعةِ البشَريّةِ السَّليمةِ مِنْ أجلِ الحفاظِ على السُّلطةِ وَالكُرسِي, لدَرجةٍ أصبَحَ فيها ميكافيلّي رَمزَ الخِسَّةِ وَالنَّذالةِ والشَّرِ بكلِّ مَعانِي هَذِهِ الكَلِمة ولدَرَجةٍ أصبحَتِ الميكافيليّةُ رمزاً للَّاأخلاقيةِ في الأَدَبِ الغَربيّ القَديمِ وَالحَديثِ كَما في مَسرَحيَّة شكسبير الَّتي تَحملُ عنوان (زَوجَات وندرسُون المَرِحات) حينَ يَقولُ فيها شكسبير عَلى لسانِ إِحدى شَخصِيَّات المَسرَحيّة: (مَاذا.. هَلْ أَنا مُخَادِع.. هلْ أنا ميكافيليّ؟).

لقَد أصبحَ ذلكَ الكتَابُ المَرجِع لأَغلبِ الدكتاتوريَّاتِ الَّتي عَرِفَها التَّاريخ الإنسَاني كمُوسيليني وهتلر وَغيرِهم, ويَبدو فيما يَبدُو أنَّ الحُكَّامَ في الشَّرقِ الأوسَطِ أيضاً قَد نَهَلُوا مِن ذلك الكتابِ واتَّخذُوه دستُوراً خاصَّاً لحُكمِ البلادِ والشُّعُوبِ وَالمُجتَمعاتْ, والإحكامِ على رِقابِهِم وَضربِهِم بيدٍ منْ حَديد واللُّجوء إلى كُلّ الأَسَاليبِ اللَّاأخلاقيّةِ في سَبِيل الاستمرَارِ في السُّلطَة واحتِكارِها ضِمنَ الدَّائرةِ الضَّيّقةِ جدَّاً المُتمَثّلةِ في شَخصِهِم وأُسرَهم وَالحِفاظِ على ما يَعْتبرُونَه من حقِّهم المَشرُوع كَالاستفرَادِ بثَرَواتِ البلادِ وَعَائداتِ اسْتثمارِهَا وَنَهبِ المَالِ العام وَإيِداعهِ في بنوكٍ خَارجيَّةٍ لتتشكَّلَ لَهم أرصدةٌ ضَخَمةٌ غَيرُ مشروعَةٍ في مُقابلِ إفقارِ المواطنينَ لدَرَجةِ التَّجويعِ وَكذلِكَ التَّحكُّم في كافّةِ مفَاصِلِ حياةِ المُجتَمَعِ مِنْ أصغَرِهَا إلى أكبَرها من خلالِ مُختلف الأَجهزةِ الأمنيَّةِ القمعيَّة, وأيضَاً الظهورَ بمَظهرِ المُقاومِ وَالمُناضِلِ في سَبيلِ القَضَايا الوطنيّةِ والقَوميَّة في الوَقتِ الّذي يَعقِدُوُنَ فيهِ معَ الأَعداءِ اتفاقيَّاتٍ سريَّة تعاكِسُ في مَضمُونِهَا الحالَ المُعلَنةَ والظَّاهِرَةَ لأولئِكَ الحُكَّامِ والقادَة, كلُّ ذلكَ في سبيلِ البَقاءِ في السُّلطةْ.

لا تَختلِفُ الحَالةُ الكردِيِّةُ والكردستانِيَّةُ كَثيراً مِنْ حيثُ أنَّ بَعضَ القَادةِ والحُكَّامِ والسَّاعِينَ بكلِّ جُهدِهِم للوصُولِ إلى السُّلطةِ اعتمَدُوا الميكافيليّة ومبدَأَها  كَفلسفَةٍ سياسيَّةٍ وأسلُوبِ حَياة, فلا غايَاتُهُم هِيَ غاياتٌ مَقبُولةٌ مِنْ حَيثُ المبدَأ ومِنْ حَيثُ المُقارَنةُ مَعَ مَا تَعِيشُهُ السَّاحةُ الكرديَّةُ والكردِستانِيَّةُ, ولا أساليبُهم هيَ تِلكَ الأسَاليبُ المُتوافقَةُ معَ مُتطلَّباتِ المَرحَلةِ والمُستَوى الَّذي تمَّ بُلُوغُهُ ضِمنَ إطارِ حلِّ القضيَّةِ الكرديَّةِ ولا هيَ بالأسَاسِ مقبُولَةٌ وِفق مِعيارِ حُريَّةِ كُردِسْتَان, فالغَايةُ عندَ ذلكَ البَعضِ هيَ الاستمرارُ في السُّلطةِ وإبقائُها محصُورةً في ذَواتِهم كحقٍّ إلهيٍّ لَهُم لِلبَقاءِ جَاثِمِينَ عَلى صَدرِ الشَّعبِ جاعلينَ مِنْ حولِهِم حاشيَةً مِنَ المُدافعينَ عنْهُم والمبرِّرين لَهُم, وكذلِكَ استمرارَ تضخِيم ثَرواتِهِم, والسَّعْي لِتَحقِيقِ تلكَ الغَايةِ مَهْمَا كانَ لِذلِكَ مِنْ تأثِيرٍ سلبِيٍّ على حياةِ الشّعبِ والمُجتَمعِ وعلى قضِيَّتِهِ الوطنيَّةِ والقومِيَّة, حتَّى إِنْ كانَتِ الوَسيلةُ هيَ تَركَ الأبريَاءِ وجهاً لِوجهٍ أمامَ الإبادةِ على يدِ البَرابِرةِ والضَّربِ بالدّستُورِ والقوانِينِ بِعَرضِ الحائِطِ وإِغلاقِ المؤسَّسَاتِ الدَّستُورِيَّةِ وتَعطِيلِ الحياةِ السّياسيَّةِ في البلادِ وكمِّ الأفوَاهِ وقَتْلِ الصحَفِييّنَ والمُعَارِضِينَ وتشوِيهِ سُمْعَتِهِمْ وتَوجِيهِ الإِعلامِ المَأجُورِ لِمُهاجَمَتِهِم وَالتَّضْحِيَةِ بِمَصَالِحِ الأُخوَةِ والمصلحة الكردستانية العامة مقابل المصالح الحزبوية والعائلية, ومُحارَبَة الأخوة وحِصَارِهِم وفِعْلِ كُلِّ مَا يَتَطلَّبُه إفشَالُ ثورَتِهِم في تَحقِيقِ أهدَافِهَا.

لقد أخطأَ ميكافيلّي وأخطأَّ المُسْتَنِدُونَ إِلَى فِكْرِهِ وفلْسَفتِهِ فالتَّارِيخُ وذَاكِرةُ الشُّعوبِ والمُجتَمعاتِ يُسجِّلانِ الوَسائلَ كَمَا يسجّلانِ الغاياتْ, والنِّفَاقُ هُو أبشعُ صفَةٍ يُمكِنُ أَنْ يتَّصِفَ بِهَا الإنساَن فكيفَ لَو كانَ ذلكَ الإنسَانُ قائِداً وزَعِيماً ورَمْزاً, وعِندَما نَقولُ بأنَّ التَّاريخَ والشَّعبَ يُسجِّلان الوسائِلَ والغاياتِ فلا يَعني هَذا أنَّهُما يسَجِّلانِ الثُنَائيّاتِ الشرانيَّةَ فَقطْ بَلْ بالمُقابِلِ يُسجِّلانِ أسماءَ الصَّادِقِينَ والأَحرَار ويسجِّلان أيضَاً الثنائيّاتِ الخَيرانيَّةَ وبأَحرُفٍ مِنْ نُورٍ وذَهَبْ, فَشَتَّانَ بَيْنَ هؤلاءِ وَهؤلاءْ.

مصدر : كتاب الأمير مترجماً للعربية, ترجمة أكرم مؤمن, جمهورية مصر

نشرت هذه المقالة في العدد (51) من صحيفة Buyerpress تاريخ 1/10/2016

%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d8%af513

التعليقات مغلقة.