كربلاء يحيى السنوار.. الحالم بـ”زوال إسرائيل” على ظهور عربات تجرها الخيول
اعتقلت إسرائيل يحيى السنوار عام 1988، ويُقال إنه فور خروجه من السجن سأل مستنكراً: لماذا لم تحرروا فلسطين بعد؟
خلال التحقيقات تعرف عليه الإسرائيليون وأذهلهم السنوار بجرأته في الاعتراف والتعبير عن أفكاره وماضيه.
حُكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات بعد إدانته بقتل أربعة فلسطينيين متهمين بالتعاون الأمني مع إسرائيل ليقضي اثنتين وعشرين سنة من عمره متنقلاً بين عدة سجون إسرائيلية، إذ اعتُقل وهو في السابعة والعشرين من عمره وخرج من السجن وهو على مشارف الخمسين عام 2011 في صفقة تبادل مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
كتب السنوار في السجن رواية أيضاً. ونادراً ما تم تسليط الضوء عليها.
قدمت الصحفية أميرة هويدي قراءة في ظروف ومضمون رواية السنوار (الشوك والقرنفل)، ونشرت قراءة مطولة في مجلة «الفراتس».
بدأ السنوار حياة جديدة في السجن لم تقل جرأة وطموحاً عن حياته خارجه. تعلم العبرية إلى درجة أهلته لترجمة كتب منها إلى العربية، وإن طالت مُدد الحبس الانفرادي التي عوقب بها. ثم قرر خوض تجربة جديدة فبدأ في كتابة روايته الأولى، التي انتهى منها بعد 15 عاماً في السجن. نجح السنوار، بمساعدة عشرات الأسرى الذين عملوا مثل خلية نمل، على حد وصفه، في تهريب الرواية على أجزاء إلى خارج السجن، بعد نسخها بعيداً عن أعين إدارة السجن، لتظهر للنور وتبرهن على أن التشديد داخل السجون لم يمنع الأسرى الفلسطينيين من ابتكار سبل شتى لتهريب ما يريدون. وأبرزت الرواية مركزية السنوار وثقله داخل مجتمع الأسرى الفلسطينيين وفي حركة حماس منذ عقود طويلة. ونشرت الرواية سنة 2004.
تحكي رواية «الشوك والقرنفل» قصة أسرة فلسطينية (هي في الواقع أسرة السنوار نفسها) تقيم في مخيم الشاطئ شمال قطاع غزة، بعد أن هُجر الجد إليها من قرية الفالوجة عام 1948. تستعرض الرواية على لسان أحمد، الحفيد الأصغر لهذا الجد، حياة الأحفاد الذين ولدوا وشبّوا في مخيمات غزة للاجئين عقب حرب 1967، بعد اختفاء الأب والعم بانضمامهم إلى فصائل مختلفة. ترعى الأم المكافحة الأبناء وحدها في ظروف شديدة القسوة، على خلفية الأحداث السياسية التي مرت عليهم خلال 37 سنةً وشكّلت توجّهاتِ الأبناء، ما بين الابن الأكبر الذي انضم لحركة فتح كما كان حال هذا الجيل، وأشقائه الأصغر (ومنهم السنوار) الذين شبّوا في نهاية سبعينيات القرن الماضي على أجواء انتشار التيار الإسلامي الذي سرعان ما انضموا إليه، ومن ثم إلى الانتفاضة الفلسطينية.
الروائي والباحث
أمضى في السجن 22 عاماً، استثمرها بشكل مثالي بالنسبة لشخص وضع في تصوره مشروعاً، وأطلق عليه «المشروع الكبير» وفق وثائق تعود لحركة حماس واستولت عليها إسرائيل خلال توغلها في غزة. أرسلت إسرائيل بعض هذه الوثائق إلى صحف أمريكية محدودة، من بينها نيويورك تايمز، التي استعرضت منها جوانب ملفتة.
لقد أمضى السنوار عقدين من الزمان في السجون الإسرائيلية يدرس البلاد ويحاول تحديد نقاط ضعفها قبل أن يخرج لتجميع حركة قوية مخصصة للإطاحة بها، وفق تقرير كتبه روري جونز في «وول ستريت جورنال» وسلط فيها الضوء على الجذور العميقة لـ 7 أكتوبر في شخصية السنوار.
كرس وقته في السجن للتعرف على المجتمع الإسرائيلي؛ فتعلم العبرية، وتابع الشؤون الإسرائيلية وقرأ كتباً عن التاريخ اليهودي والحركة الصهيونية.
لقد بنى السنوار كل خيالاته وأحلامه كشخص سيقضي حياته كلها داخل السجن. وفجأة تم إطلاق سراحه عام 2011 في صفقة تبادل أسرى سلمت فيها إسرائيل أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل جندي إسرائيلي واحد. فخرج وهو مثقل بأحلامه في زوال إسرائيل عبر معركة هرمجدونية نهائية فاصلة.
لقد قال السنوار ذات يوم إن ما تعتبره إسرائيل قوة لها إنما هو في الحقيقة ضعف يمكن استغلاله، وهو قوة مكانة الجنود في المجتمع الإسرائيلي. كان هذا جوهر 7 أكتوبر. وهناك دليل على ذلك، فقد استبدل جندي إسرائيلي واحد بألف أسير فلسطيني في العام 2011. كان هذا القياس قاتلاً، لأن نتنياهو ليس يسارياً يمنح الأولوية لإنقاذ حياة أناس في الحاضر دون حساب المستقبل. لقد تخلى نتنياهو عن الأسرى، وفقد السنوار مبكراً أقوى سلاح لديه حين رفض نتنياهو الرضوخ لضغوط «مجتمع الأسرى»، أو سقوطه ومجيء حكومة يسارية تعتبر إطلاق سراح الرهائن – كيفما كان – انتصاراً. لم يحدث ذلك.
قضى يحيى السنوار نحو 22 عاماً في السجون الإسرائيلية. كان يعتقد أنه تخرج من السجون خبيراً في كيفية القضاء على دولة إسرائيل مرة واحدة وللأبد.
أظهرت الوثائق الداخلية لحركة حماس التي نشرها الجيش الإسرائيلي قبل أسابيع، كيف فكر السنوار خارج الصندوق، صندوق الصراع مع إسرائيل. لقد أراد اختصار الزمن. دأب عدد من المبشرين الحالمين على الترويج لنظرية زوال إسرائيل تلقائياً، وببطء، بسبب العامل الديمغرافي الفلسطيني. تزخر الأدبيات العربية بأقاويل من هذا النوع، أن زوال إسرائيل حتمي تدريجياً والزمن كفيل به. لم يثق السنوار بالزمن، وأراد التعجيل بالزوال عبر معركته الكبرى الكربلائية.
معركة على ظهور عربات تجرها الخيول
كان في تصور السنوار شن هجوم كبير على إسرائيل من ثلاث جبهات متزامنة. من فلسطين ولبنان وإيران، بحسب وثائق استولى عليها الجيش الإسرائيلي في غزة ونشرتها وسائل إعلام أميركية وتعود إلى فترات بين 2019 و2021.
وكتب السنوار في رسالة إلى قاسم سليماني: «سنقوم معاً باقتلاع هذا الكيان الوحشي، وتغيير وجه المنطقة معاً». كان هذا هو المشروع الحلم.
وضع السنوار خطته وعرضها على حلفائه. وفق العناوين العامة لما سربته إسرائيل من وثائق تعود للسنوار، تضمنت الخطة شن هجمات متزامنة تستهدف المطارات والبنية التحتية الحيوية الأخرى والاستيلاء على الهيئة التشريعية الإسرائيلية في القدس، وتدمير مجموعة من الأبراج في تل أبيب بالقرب من مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية. كما اقترحت خطط السنوار فكرة استخدام الخيول والعربات لنقل مسلحي حركة حماس عبر إسرائيل. وتضمنت عرض شرائح مع صورة لحصانين وعربة بجانب صورة لفرعون مصري يركب عربة بقوس وسهم.
إن نسخة الهجوم التي ظهرت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نسخة متواضعة من المعركة الحلم. حتى أن عربات الفراعنة التي تجرها الخيول لم يكن لها مكان في الهجوم الدامي لمسلحي الحركة على مستوطنات وقواعد إسرائيل في منطقة غلاف غزة. بدل العربات، استخدموا دراجات نارية متواضعة، لكنهم طوروا الطائرات بدون طيار لنقل المسلحين إلى داخل المستوطنات والقواعد العسكرية وكذلك الهجوم على المهرجان الغنائي. كان تطبيق فكرة قدرة مسلحي حركة حماس على التحليق جواً من إبداعات السنوار. والمؤكد أن هذه الخيالات راودته مراراً قبل سنوات وهو يتصور كيف يصبح عناصر القسام مثل «الطيور الأبابيل» فتنقض على إسرائيل وتجعلها كعصف مأكول.
وفق مجريات نسخة 7 أكتوبر/تشرين الأول، ظهر أن حلفاء حركة حماس (إيران وحزب الله) لم يوافقوا على المشاركة مباشرة في الهجوم. وبالتالي، فقدت الخطة الأصلية الكثير من عناصر الخيال وبقيت على الورق فقط، فشن السنوار الهجوم بإمكانيات «حماس».
كان لديه أيضاً جانب أكاديمي أكثر عقلانية. يقول إيهود يعاري، الصحفي الإسرائيلي الذي أجرى مقابلة معه في السجن، أنه كتب بخط اليد مئات الصفحات من أفكاره واستنتاجاته عند قراءة التاريخ اليهودي والصهيوني، ما يدل على فضوله بشأن عدوه الذي أذهل الإسرائيليين الذين التقوا به في ذلك الوقت.
في عام 2004، بدا أنه يعاني من مشاكل عصبية، وفق «وول ستريت جورنال»، ويتحدث بطريقة غير متوازنة ويعاني لمجرد المشي. فحصه الأطباء، ووجدوا خراجاً في دماغه ونقلوه إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية. بعد عملية ناجحة، عاد السنوار إلى السجن وشكر الأطباء على إنقاذ حياته. كما أمضى ساعات في محادثة مع أحد سجانيه.
شكلت فترة الربيع العربي كارثة على القضية الفلسطينية. لقد أصبحت مهملة ولا مكان لها حتى في نشرات الأخبار العربية غير الموجهة. وتورطت الحركة في فترة رئاسة خالد مشعل المكتب السياسي في الانضمام إلى محور الإسلام السياسي المدعوم من تركيا ضد الحكومة السورية، وساهمت في تلقين مسلحي الفصائل التابعة لتركيا حفر الأنفاق في ضواحي العاصمة دمشق. كان صعود السنوار يتطلب استعادة «حماس» من خط الإخوان «السني» إلى خط الإخوان «الإسلامي الفلسطيني»، فصعد السنوار في غزة كزعيم للحزب في القطاع، وصعد إسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي، وتم تهميش مشعل. ومعهما، استأنفت «حماس» التعاون الكامل السابق مع «محور المقاومة»، فكان صعود السنوار رهناً باستعادة العلاقات الكاملة مع طهران وطي صفحة انزلاق الحركة إلى الجهد الإخواني – التركي في الربيع العربي.
فلتكن كربلاء جديدة
في الأشهر التي سبقت 7 أكتوبر/تشرين الأول، ناقش الحلفاء المناهضون لإسرائيل الطرق التي يمكنهم من خلالها مهاجمة عدوهم المشترك. ولكن في حين هاجم حلفاء إيران إسرائيل والقوات الأميركية في الشرق الأوسط منذ بدء الحرب في غزة، تجنبت طهران إلى حد كبير التصعيد الشامل، وهو القرار الذي يقال إنه أحبط السنوار.
بمجرد بدء الحرب، أدرك السنوار أن نجاح الحركة سيعتمد على بقائه والحفاظ على حياته وتفوقه على إسرائيل، ما يفرض وقف إطلاق نار دائم من شأنه أن يترك «حماس» سليمة.
لفترة من الوقت، اعتقد السنوار أنه قد يخرج منتصراً. وفق شهادات نقلتها «وول ستريت جورنال»، أصبحت رسائله إلى زملائه في الحركة ووسطاء وقف إطلاق النار واثقة بشكل متزايد، وحتى عظيمة، وفقاً لوسطاء وقف إطلاق النار العرب. أثناء المفاوضات من أجل وقف مؤقت للقتال في وقت سابق من الحرب، حث قيادة الحركة السياسية خارج غزة على عدم تقديم تنازلات والدفع نحو إنهاء دائم للحرب.
كان السنوار يعتقد أن ارتفاع عدد الضحايا المدنيين في غزة من شأنه أن يخلق ضغوطاً عالمية على إسرائيل لوقف الحرب، وفقاً للرسائل التي أرسلها إلى الوسطاء. ولكن حتى مع استمرار الولايات المتحدة في الضغط على الجانبين للموافقة على وقف إطلاق النار، اقترحت إسرائيل شروطاً من المرجح أن تؤدي إلى زوال «حماس». وتمسك السنوار بموقفه الأدنى وهو ضمان بقاء الحركة وتأجيل «زوال إسرائيل».
في رسالة إلى حزب الله قبل مقتله، شكر السنوار الجماعة على دعمها، وذكر معركة كربلاء، حيث قُتل الحسين بن علي حفيد النبي محمد في معركة أمام قوات بني أمية.
وكتب السنوار إلى حزب الله: «علينا أن نمضي قدماً على نفس المسار الذي بدأناه، أو فلتكن كربلاء جديدة».
فماذا كانت؟ كانت كربلاء جديدة بلا عربات تجرها الخيول!
المصدر: المركز الكردي للدراسات
التعليقات مغلقة.