الجريمة

33

عباس بيضونانقضى على حرب تموز قرابة عقد من الزمان ولا يزال لها حضور لا في الذاكرة فحسب ولكن أيضاً في الحاضر. سنقول إن جزءاً مما يجري في لبنان هو من ترددات هذه الحرب لا لأننا لسنا أمام روايتين متناقضتين فحسب ولكن لأن امتداداتهما لا تزال راهنة. ثم ان هذه الحرب تتكرر بالحرف في غزة. فإذا كانت إسرائيل تذرعت بمقتل جنود وخطف غيرهم في دبابة إسرائيلية للهجوم على لبنان، فهي تتذرع اليوم بخطف ثلاثة شبان إسرائيليين ومقتلهم بعد ذلك للهجوم على غزة. لم يكف إسرائيل أن طفلاً فلسطينياً شوي حياً في فظاعة تفوق قتل الشبان. لم يكفها ذلك فأصلت غزة كلها ناراً حامية وأغارت عليها في حرب هي الثالثة التي تطبق فيها عليها. اتهمت إسرائيل حماس لكنها انتقمت من شعب غزة كلها، وبالطبع فإن سقوفاً هوت وعائلات بأكملها اختفت وأطفالاً سفكوا على حليب أمهاتهم. كذلك فعلت إسرائيل في لبنان، انتقمت من الشعب وسلطت طائراتها وقذائفها على الشيعة اللبنانيين بخاصة في الجنوب وفي الضاحية والبقاع. هكذا تقوضت بيوت على أهلها وامحت عائلات كاملة. أعلن حزب الله مسؤوليته عن العملية لكن إسرائيل، التي لم تستطع ان تدمر قوة الحزب، صبت غضبها كله على الشعب، قصفت قوافل نجاة وقصفت مستشفيات وقصفت ملاجئ وقصفت جسوراً ومؤسسات ومصانع. أطاحت بذلك كله في ما بدا للناس جميعاً، ولأهل لبنان بالدرجة الأولى، انتقاماً ليس إلا، ليس من الحزب الذي بقيت له قوته وسلاحه وجاهزيته، ولكن من الشعب كله. لم تدر الحرب فقط في الميدان بل إن جلها كان قصفاً حراً وعشوائياً وقتلاً أعمى وكيفما اتفق للشعب الذي خرج منه حزب الله ومقاومته. القصف الحر والأعمى للشعب الأعزل وغير المحارب وتدمير المدن على أهلها ليسا شطحاً إسرائيلياً ولا استثناء. انه في جنوب لبنان وضاحيته وبقاعه وفي غزة الأسلوب الإسرائيلي الحربي الكلاسيكي، فالحرب لم تعد في الميادين فحسب، انها بالأحرى بين المدنيين وعلى المدنيين. انها الحرب الحديثة التي تستهدف السكان أولاً.
الانتقام والثأر بمقاييس مهولة والكراهية الصرفة هي الصفة الأولى لحرب كهذه، التي تقع بالدرجة الأولى على العزل وغير المحاربين. لا نعرف ما هي غاية إسرائيل من حرب كهذه. نخطئ إذ نظن انها ترمي إلى بذر شقاق بين الأهالي والمسلحين، فالأرجح ان الذين انتقدوا عملية حزب الله ما لبثوا ان لاحظوا ان الرد الإسرائيلي هو غطرسة كاملة، وانه بالدرجة الأولى حرب على السكان والمدنيين، وانه ثأر بكل معاني الثأر، أي انه أخلاقياً لا يتعدى الجريمة.
هذه الملاحظات تبدو لأول لحظة بديهية، ولربما بدت بالنسبة للقراء العرب نافلة. لكن الميزان الأخلاقي في المعركة مع إسرائيل ليس أمراً ثانوياً ولا هو تحصيل حاصل. لقد تذرعت إسرائيل في حربها ضد لبنان بالحجة ذاتها التي كررتها مراراً في حربها ضد غزة. انها حجة تتذرع بقتل أو خطف أفراد (الأمر الذي يفعله المستوطنون الإسرائيليون أيضاً) للإغارة على شعب كامل وإباحة القتل فيه بدون حساب، وتعريضه كله للانتقام العشوائي، ومحاسبته كله على صنيع فصيل منه وتصفية آلاف ومئات لقاء الأفراد الذين قتلوا أو خطفوا. انه ألف مقابل واحد، هذه هي غطرسة القوي المنتقم وحساب لا يخلو من عنصرية: إسرائيلي واحد مقابل ألف أو مئة عربي أو فلسطيني.
يحدث كل ذلك في وقت تصالحت فيه إسرائيل تقريباً مع اغلب دول الطوق «مصر والأردن» وأقواها (مصر) ولها صلاتها السرية وما يشبه الصلح مع دول عربية أخرى. اعترف بها الفلسطينيون أنفسهم بعد مفاوضات أوسلو وعرض عليها العرب بواسطة السعودية صلحاً كاملاً. انها فرصتها لتخترق المنطقة وتتداخل فيها لكن إسرائيل لا تريد هذه الفرصة ولا تنتهزها، لا تريد إعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة التي ملأتها بالمستوطنات ولا تزال تقضمها بالتالي شيئاً فشيئاً، وتجعل من عودتها للفلسطينيين أو إعادتها لهم أمراً شبه مستحيل، تحافظ إسرائيل على احتلال قد يكون الأول من نوعه في العالم، وتجعل بالتالي من قيام دولة فلسطينية أمراً غير ممكن وغير مطلوب أو مقبول من جهتها. رغم المصالحة البادئة في الواقع مع إسرائيل لا تثق إسرائيل بهذه المصالحة ولا تعوّل عليها. انها تستمر في تنفيذ مشروعها الاستيطاني الذي لا يساعد البتة على اندماجها في المنطقة أو تصالحها معها. تواصل اعتبار نفسها محوطة بالعداء في حال انها الآن، بالنظر الى ما يجري حولها، الدولة الأكثر أمنا في المنطقة. تواصل اعتقال عشرات آلاف الفلسطينيين (وبينهم نواب وقادة) وتغير على المخيمات وتنسف البيوت وتجعل من السلطة الفلسطينية التي هي ثمرة مصالحة أوسلو، والتي افترض انها ستكون بوابة مصالحة عاماً، أمراً صورياً، بل تبالغ في إذلال هذه السلطة ولا تترك لديها أي حيلة. لا تزال إسرائيل تظن أنها موجودة بالقوة فحسب، ووجودها رهن بالقوة، وانها ما لم تكن الأقوى والأعنف، وما لم تبد أنيابها كل لحظة، فإنها لن تكون مستقرة أو آمنة. انها تنتهز الفرص وتتذرع بأقل شيء للقيام بحملات تأديبية غايتها بالدرجة الأولى الترويع الكثيف، مما لا يترك لأحد خياراً. حتى هؤلاء الذين ينتقدون العمليات ضدها ليسوا أحراراً تجاه الهجوم الإسرائيلي، وعليهم أخلاقياً أن يؤازروا التصدي ويشيدوا بشجاعة المتصدين.
إذا وضعنا الخطابة العربية جانباً فإن إسرائيل اليوم هي التي تعيق السلام وتعيق المصالحة. لقد أيد عاموس أوز ودافيد غروسمان (الكاتبان الإسرائيليان الكبيران) حرب تموز حين اعتبراها شرعية أي رداً على اعتداء، لكن حينما تجاوزت العملية الرد وتحولت بحد ذاتها إلى جريمة فادحة، (فقد غروسمان ابنه في معركة الدبابات الشهيرة) عندئذ سحبا تأييدهما. ليس عاموس أوز سوى صهيوني حزين، كما يسمي نفسه، لكن الأيام تظهر لعاموس أوز ودافيد غروسمان وغيرهما وللعالم أجمع ان إسرائيل تداوي وضعها بالجريمة.

التعليقات مغلقة.