إسماعيل بيشكجي المواطن العالمي الممنوع على الأراضي التركية
|
دهوك – يعتبَر الباحث والمفكر وعالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشكجي صاحب العديد من المؤلفات المشهورة تلك التي تصنَّف في دائرة “ممنوع التفكير فيه” بالنسبة إلى التوجهات السياسية والأمنية في تركيا، وحتى على المستوى الأكاديمي باعتبار الأكاديمية قائمة في واقع مجتمعي، ثقافي وتربوي وحتى أدبي وفني مأخوذ بسلطة فاعلة في بنيته وفي تركيا بالذات.
تقدير الأعداء والأصدقاء
ولعل المطَّلع على أدبيات بيشكجي لا بد أن تتملكه روح الإعجاب إزاء رجل مخلص لأفكاره، وقد أمضى الكثير من السنوات ثمناً لموقفه، إلى درجة إمكان القول إن هذا الرجل البحثي والسوسيولوجي قد اتخذ صفة “المواطنة العالمية” ونال تقدير حتى ألد أعدائه السياسيين في الداخل التركي، اعتماداً على طروحاته ذات الصلة المباشرة في الكثير منها بما هو كردي. فالرجل فيما اشتغل عليه ومنذ ستينات القرن الماضي يريد التأكيد على حقيقة وهي أن المرء يفصح عن أخلاقيته المميزة من خلال نظرته إلى الكردي باعتباره صاحب قضية سياسية جغرافية وتاريخية.
بيشكجي الحدودي، الحدودي الملغوم، الملغوم الذي يتجدد انفجاراً، لم يتوان، ومنذ نصف قرن، عن التعبير عما هو مهدور بالنسبة إلى الكرد كشعب وكقومية. الحدود الكردية هي تلك التي يرسمها ويفصح عنها في ارتحالاته داخلاً وخارجاً، هي التي من خلالها يشدد على حقيقة لافتة، تُترجَم هكذا: إذا أرادت تركيا أن تكون ديمقراطية فعليها بإيجاد حل للمسألة الكردية، لقضية شعب موزع بين عدة دول. أي أنه لا يركز على ما هو كردي “تركياً” حصراً، إنما في الجوار الجغرافي الممزق : إيران، العراق، سوريا، ودون أن ينسى الإشارة أيضاً إلى التداخل بين الكردي وسواه: الأرمني، السرياني وغيرهما، بصفتهما تعرضا لعنف تاريخي “عثماني- تركي”، ويدخلان في شراكة مكان مع الكردي بالمقابل.
بيشكجي في كردستان العراق
وجاءت استضافته من قبل حكومة إقليم كردستان العراق في نطاق الاعتراف بجميل الرجل، حيث يندر وجود نظير له لحظة النظر في المبدأ الذي ثابر على ترجمته إلى أقوال وأفعال.
بيشكجي منطلقاً من المأثور الإيماني العميق في المعرفة وخطاب الحقيقة إبستومولوجيا، يقدَّم من خلال مجموعة مؤلفات نشرها على مدى عقود زمنية، ودافع عنها في مواقع بحثية ومؤسساتية، كما في: “النظام في الأناضول الشرقية – 1969″، سلسلة “المنهج العلمي” ومنها: 1 -المنهج العلمي وكيفية اصطناعه في تركيا، 2 – ترحيل الكورد القسري- 1977، 3 – أطروحة تاريخ الترك ونظرية الناطقين بلغة الشمس والمسألة الكوردية 1978، 4 – قانون تونجلي في العام 1935، إضافة إلى مؤلفات أخرى منها: الإبادة الجماعية في درسيم 1990..، كوردستان مستعمرة دولية 1990، مثقف واحد، ومنظمة واحدة، والمسألة الكوردية 1990، رسالة إلى اليونسكو 1991.. الخ.
إن هذه المؤلفات تكاد تمثل جواباً واحداً، على سؤال واحد يتكرر كل منهما إزاء الآخر، هو: إلى أي مدى يمكن لخطاب الحقيقة سالف الذكر أن ينال اعترافاً به في مواجهة قوة سلطوية، ربما تكون جماع قوى تتربص به؟
لعل ذلك يتوقف على المعنيّ بالخطاب ووقائعه، والمستجدات التي لا تبقى على حالها مع نهر هرقليطس “الزمن”، وأقل ما يقال هنا تأكيداً على أن هذا الخطاب قد ينزع الاعتراف من القوى المضادة له، هو: جهة زيارة بيشكجي، وإمكان تهجئته لمفردة “كردستان”، وعبر البوابة التركية-الكردية، وأكثر من ذلك عبر انفتاح تركيا كنظام، على الكرد مقارنة بما كان يجري حتى الأمس القريب من عنف موجه ضدهم جهة التنكر لوجودهم.
التركي الشاهد على الكردي
كان لقاء بيشكجي مع جمهور مهتم بالثقافة، إنما أكثر بـ”نجم” سياسي، فرصة لا تفوَّت، ويعني ذلك أن الحضور اتخذ أكثر من صفة متابعة مع رجل دفع الكثير من حياته ليصل إلى هذا المستوى من الاحتفاء والاهتمام به رسمياً أيضاً.
في قاعة المحاضرات في مبنى رئاسة جامعة دهوك، وفي قلب المدينة مساء. ليكون الحضور مزيجاً لافتاً من السياسي والثقافي، الإعلامي والمعرفي وما بينهما من درجات.
بيشكجي الذي سلسل أفكاره مرتجلاً إياها وبهدوء تعبيراً عن تمكنه منها، وكونه عاشها ويعيشها منذ أكثر من نصف قرن، كان يصل بها مترجمة إلى الكردية، ويمكن إيرادها من خلال النقاط التالية:
قدم التاريخ الكردي على صعيد الإشكالية بالذات في جغرافيا مسماة بـ” كردستان” لم تهدأ جهة الذين دخلوها وتقاسموها.
مجموعة أقوام تعايشت وتفاعلت وتنازعت أيضاً فيما بينها، فهناك الكرد والسريان والأرمن وصراع القوى النافذة في المنطقة: العربية والإيرانية والتركية.
تعرض الكرد أنفسهم لانقسامات وصراعات جانبية وتكتلات جرّاء تدخل القوى المحلية والإقليمية والدولية لإضعافها والسعي إلى محاولة تسخيرهم خدمة لمصالحها “كما في حال تشكيل الإيالات الحميدية والتي كان لنسبة معلومة من الكرد سهم فيها”، إلى جانب اندفاع دول المنطقة المتقاسمة لكردستان إلى جعلها ساحة حرب والتعاون في
ما بينها لضرب أي محاولة كردية تحررية في أي جهة كردستانية معاً أو على انفراد، والثمن الباهظ مدفوع من قبل الكرد.
وكان للولاءات الدينية والعشائرية دورها اللافت في إبقاء العنف والافتئات الجغرافي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وللعثمانيين ومن ثم الأتراك سهم كبير في هذا المضمار.
وقد بلغ التحدي الكبير للقوى الشعبية المفككة والمرصودة الأوج في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من قبل أنظمة المنطقة والدول الكبرى: بريطانيا وفرنسا وروسيا خصوصاً، حيث كل قوة كانت تجيّر قدر المستطاع وما فيها من تناقضات استجابة لمصالح إقليمية ودولية، والقوى هي كردية وأرمنية وسريانية.
بالنسبة إلى الكرد وفيما هم عليه، فإنهم في محاولتهم تأسيس وجود قومي وثقافي واجتماعي على الأرض، وداخل لعبة هذه القوى الإقليمية والدولية، حتى بعد قيام الجمهورية التركية 1923، من خلال دولة لها اسمها “كردستان”، لا يمكنهم تحقيق ذلك بسهولة كون المحاولة هذه تجد مقاومة لها ليس من قبل الدول المتقاسمة لكردستان وتلك الدول الكبرى المسماة آنفاً، وإنما من خلال صراعات مذهبية وإثنية أخرى، كما في حال السريان “الآثوريين” والأرمن.
الاستقلال الذاتي
وما تحقق للكرد عبر استقلال ذاتي في إقليم كردستان يفصح عن ضراوة التحدي وهو قائم، وفي ضوء المستجدات والمخاطر، خصوصاً وأن ما كان ميسوراً لهم في بداية القرن العشرين أفضل مما هو متاح الآن، كما لو أن الكرد محكومون بسياسة لعبة عليهم الاستمرار داخلها خارج نطاق الاسم الجغرافي والقومي الذي يعنيهم. صحيح أن المحقق للكرد هنا “في الإقليم” مبهج، إنما عليهم بالمقابل أن يتداركوا خلافاتهم، وأن يكونوا في مستوى التحدي الكبير، ولا يمكن التغاضي عنه، وهذا يتطلب المزيد من التكاتف والارتقاء إلى مستوى التحدي أيضاً.
بيشكجي أكد على مجمل ما كان يثيره في مؤلفاته ذات المنحى السوسيولوجي، وهو يتطلب في كل فكرة مطروحة سنداً داعماً “أمثلة من الواقع الميداني” وهذا ما يمكن تلمسه لديه “أبسط مثال هو الكم الوافر من هذه الأمثلة في كتابه : كردستان مستعمرة دولية، وقبل ربع قرن تقريباً”، لتكون السوسيولوجيا هي الأخرى استمراراً للعبة القوى وساحة حرب رمزية وغيرها، وما يدخل في بنيتها من سريان فعل الاقتصاد والثقافة والسياسة والتربية وغيرها.
عن العرب اللندنية
التعليقات مغلقة.