الكردي السوري.. الأخ الصغير القاصر

110

012 مشيئة الكرديّ السوريّ وقدره أنّه ابن القضية الكرديّة وجزءٌ منها بجميع أبعادها ومضامينها، وقد توفّرت له الفرصة التاريخيّة الحاليّة ليثبتَ جدارته ومقدرته،لكن أخوته الكبار منعوه، وأرادوه صغيراً قاصراً كما كان عليه سابقاً، يفكرون بدلاً عنه، يجدولون أعماله، ويضبطون أقواله وأفعاله، وينظّمون أحواله، ويزكون أمواله، ويحددون حلّه وترحاله (زماناً ومكاناً)، ويفاوضون باسمه، ويعينون لسان حاله، كي يبقى قرباناً لصراعاتهم، وورقة في مساوماتهم، ورقماً في تصفية حساباتهم كردستانيّاً واقليميّاً ودوليّاً”.

 

محفوظ رشيد

بحكم الأقدار وسياسة الاستعمار وجد الكرديّ السوريّ نفسه صغيراً قاصراً بين أخوته الكبار، بالرغم من تفوقه الكبير عليهم بالخبرات والطاقات في العديد من المجالات، يشاركهم أفراحهم ويشاطرهم أتراحهم، مطبِّقاً قاعدة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى، ويأويهم في دوره، ويطعمهم من قُوْتِه، ويفديهم بدمائه، ويغمرهم بودِّه ووفائه، يتحمّل أعباءهم ومآسيهم في المحن والشدائد بالرغم من جسده المثخن بالجراح النازف دوماً، بسبب الظلم والغبن والحرمان الذي عاشه ويعيشه بفعل الاجراءات الشوفينيّة والمشاريع العنصريّة والقوانين الاستثنائيّة المُطبَّقة بحقّه.

استبشر الكردي السوريّ خيراً بقدوم الربيع العربي وهبوب رياح الإصلاح والتغيير العاصفة بالمنطقة، حيث كان ينتظرهما بفارغ الصبر وأحرّ من الجمر، ليستعيد حضوره واعتباره، فبدأ ببيته ليجدّد إعماره، ويحصّن أسواره، ويؤمّن جواره، ويكتم فيه أسراره، ويلملم شمل أفراد عائلته بأخياره وأشراره، بصغاره وكباره، ثم ينصرف إلى محيطه ليترجم رؤاه وأفكاره، فيلعب أدواره في حماية دياره، ومكافحة أضراره وتحسين أحواله وأخباره، وتأمين كامل حقوقه وإقرارها.

لكن كالمعتاد – وقبل الشروع في تنفيذ ما يدور في ذهنه، وما يتطلب منه من مهام وواجبات- استشار الكردي السوري أخوته واستعان بهم، فلبَّوا نداءه، ولكن الكل بطريقته الخاصة ووفق أجندته ومصلحته، فاستخدموا صلاحياتهم الوصائية، وآليّاتهم الادّعائيّة، وأساليبهم التهديديّة والترغيبيّة، ووسائلهم التحريضية من أمنيّة وماليّة وإعلاميّة، فتدخلوا في شؤون بيته، وفرضوا عليه مخطط بنائه، وطريقة أكسائه، ونوعية أثاثه وأضوائه، وطبيعة أجوائه، وأجبروه عليه نمط محدد من الادارة والتدبير والحراك، وفرقوا بين أبنائه، وصنفوهم وفق أهوائهم، فجعلوا من الصالح طالحاً، والفاعل خاملاً، والواعي غبيّاً، والغني فقيراً، والمقدام متخاذلاً، والنظيف وسخاً، وبالعكس أيضاً؛ حسب معاييرهم ومقاييسهم التي تخدم سياساتهم ومشاريعهم، ونجحوا إلى حدٍّ ما في استقطاب بعض القيادات الحزبيّة واستمالة بعض الفعّاليّات المجتمعيّة، واحتوائهم ضمن أُطر سياسية مبرمجة ونُظم مؤدلجة، حسب الولاء لحلف هذا الأخ، أو الانتماء لحزب ذاك الأخ، على قاعدة  الاصطفاف والتخندق والتمحور.

اختار قسم كبير من أبناء الكرد السوري الهجرة والاغتراب، والالتزام بشروط السماسرة والتجار، وفضّلوا الغرق في البحار والضياع في الأدغال على الانصياع لأوامر الأخوة المتخاصمين، وارتكاب حماقات كالمشاركة في الاقتتال الداخلي، أو الانزلاق إلى الصراعات الطائفيّة والدينيّة والعرقيّة، أو الخوض في حرب لا ناقةٌ لهم فيها ولا جملٌ، والأهم هو عدم السير في نفقٍ طويلٍ مظلم لا يرى  في نهايته بصيص ضوء أو أمل قريباً؛ بسبب الوضع المتأزم والمتفاقم يوماً إثر يوم.

ورضي قسمٌ لا بأس به بالمغامرة والانخراط في المحاور، أوعن قناعة ومبدأ، رافعون راية أحد الأخوة الكبار، طامحون في ثروة أو سلطة أو جاه، أو ساعون وراء ثأر أو انتقام، أو غايات أخرى خاصة بهم، مستثمرون الظروف الاستثنائيّة الراهنة، والتي أوجدتها الحروب الدائرة بين أطراف مختلفة وعلى جبهات مختلفة في المنطقة، ولا سيما في سوريا الأزمة.

وقسمٌ آخر يمثل الأكثريّة الصامتة، التي توخت التشبُّث بالأرض والصمود بما تمتلكه من مقومات بسيطة ومستلزمات متواضعة توفر لها الحد الأدنى المقبول من الاستمرار في الحياة بكرامة وشرف، بالرغم من الظروف الأمنية والمعيشية الصعبة، متكيّفة مع الأوضاع  الحرجة والظروف الطارئة، ومتحديّة الضغوط والمخاطر، محافظة على ثوابتها القومية والوطنية والإنسانية، على كافّة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

مشيئة الكردي السوري وقدره أنه ابن القضية الكرديّة وجزء منها بجميع أبعادها ومضامينها، وقد توفرت له الفرصة التاريخيّة الحالية ليثبت جدارته ومقدرته، على امتلاك نفسه وتهيئتها لمواجهة المستجدات والتحديات، واستثمار الأحداث والمتغيرات، ويكون بمستوى المسؤوليّة والأهليّة ليقرر مصيره بحرية واستقلالية، ليبلغ مقصده ومبتغاه، لكن أخوته الكبار منعوه، وأرادوه صغيراً قاصراً كما كان عليه سابقاً، يفكرون بدلاً عنه، يجدولون أعماله، ويضبطون أقواله وأفعاله، وينظّمون أحواله، ويزكون أمواله، ويحددون حلّه وترحاله “زماناً ومكاناً”، ويفاوضون باسمه، ويعينون لسان حاله، كي يبقى قرباناً لصراعاتهم، وورقة في مساوماتهم، ورقماً في تصفية حساباتهم كردستانيّاً وإقليميّاً ودوليّاً.

وما عسى الكردي السوري فعله سوى التحلّي بالجرأة والصدق والجدّيّة ومراجعة الذات وترتيب الأوراق، والتمسُّك بالثوابت والدروس، التي استخلصها من تجارب حركته التحرريّة وتربى عليها، والتأكيد على الخصوصيّة والاستقلاليّة والحريّة والاعتماد على الذات في اتخاذ الموقف والموقع فكريّاً وتنظيميّاً وميدانيّاً، مع احترام البعد الكردستاني على أساس التعاون والتنسيق، وتبادل الدّعم والمساندة، وتقديم الخبرات والقدرات، ضمن تفاهمات استراتيجية عامة وشاملة على قاعدة التكامل والتضامن.

وبقي عليه تجميع أبنائه العقلاء والحكماء؛ من المهتمين والغيورين، ومن الكوادر والخبرات والنخب الفاعلة والنزيهة -في الوطن والشتات- وتأطيرهم، وتوحيد صفوفهم وخطابهم وطاقاتهم، بعيداً عن وصايات الأخوة الكبار واملاءاتهم، الذين دأبوا واعتادوا على استثمارها واستغلالها في تنفيذ أجنداتهم، وكذلك لاستعادة الشخصية الكرديّة السوريّة بكامل خصائصها وحقوقها وممتلكاتها، التي تعرّضت للسلب والتّشويه والتّمييع والتّحجيم.

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 35 بتاريخ 2016/1/15

13

التعليقات مغلقة.