ثقافة الوثن  !!

238

فريد سعدونمحنة الثقافة الكردية أنها تعاني ازدواجية الانتماء، والعامل المؤثر هو استخدام لغة الآخر، وفي بعض الحالات تقمّص عاداته وتقاليده وتاريخه، وتلكؤ الثقافة الكردية في التحوّل من الشفاهية إلى الثبات، بفعل غياب الأبجدية الكردية، والانتقال إلى استخدام الحرف العربي بعد اعتناق الكرد الدين الإسلامي بقاعدته العربية، مما دفعهم إلى التماهي مع الثقافة العربية بمعظم تفاصيلها، هذه الازدواجية زرعت الوهن في مواجهة التحديات الخطيرة التي كبحت انبعاث الخصوصية الفكرية والثقافية الكردية، ورسّخت التبعية لثقافة اللغة السائدة، مما وسع الهوّة بين الانتماء القومي والتمثّل الثقافي المغاير، وترك انعكاسات سلبية متعددة من أخطر نتائجها التيه والضلال والتشتت، وفقدان البوصلة في تأسيس فكر قومي أو ثقافة قومية حضارية، وبالنقيض منها تعزّزت التبعية الشخصية، والتجأت القبيلة الكردية للتمحور حول الشخصية: القبلية أو الدينية، على حساب التمحور القومي، واستأثرت الشخصية المبجلّة / المقدّسة بالاهتمام كله، حتى استفحل أمرها لتتحول فيما بعد إلى الشخصية / الوثن / الصنمية، وتاريخ الشرق مفعم بالأصنام والأوثان والأنصاب، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: أي صنم كان يعبده الشعب الكردي؟

الشعب الكردي من شعوب الشرق / بلاد الرافدين، لذلك لا بد أن يكون تاريخه زاخراً بالأساطير والآلهة، ولكن هذا التاريخ استُلب من قبل الشعوب المتسلطة، وبذلك تمّ استلاب آلهته وأصنامه وأوثانه، وهنا نجد أنفسنا مضطرين لتوضيح التمييز بين دلالات هذه الأسماء، فالأصنام هي تماثيل للعبادة، وفي المعجم، الصنم هو تِمْثَالُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وفي القرآن الكريم (قالوا نعْبُد أصـنامـاً فنظـلّ لهـا عاكفين ) (الشعراء71 )، فالتمثال هنا يشكل ظاهرة إبداعية فنية أو جمالية، ولا يُعدّ كفراً، لأنه ليس موضوعاً للعبادة، وقد أمر النبي سليمان عليه السلام بنحتها للتزيين والزخرفة، كما في قوله تعالى : ( يعملون لـه مـا يشـاءُ منْ محاريب و تمـاثيل ) (سورة سـبأ 13 )، ومن هنا فإن العرب حينما فتحوا مصر لم يهدموا التماثيل والمنحوتات الفرعونية لأنها لم تكن للعبادة. بينما الوثن: اصطلاحاً ما كان ذا منزلة ورفعة وكرامة وخاصة الأشياء ذات الصفة التذكارية منها، كالبناء والنصب والأيقونات أو التماثيل، أو الأشخاص الذين يتمّ تقديسهم ، فقد قال إبراهيم عليه السلام لقومـه: ( إنّمـا اتّخذْتُم منْ دون الله أوثاناً مـودّةً بينكم في الحياة الدنيـا ثُمّ يوم القيامة يكفر بعضُكم ببعْض و يلعن بعضُكم بعضـاً و مأواكم النار ) (العنكبوت 25).

فالشعوب معظمها كانت لها أصنام تعبدها، ولكن التاريخ الكردي المندثر لا يكشف لناعن صنم كردي، رغم أن بلاد الرافدين ومنطقة كردستان كانت تعج بالآلهة، بيد أنه يكشف لنا عن أوثان ما زالت قائمة ومعبودة، وما يميز الوثنية الكردية، أنه ليس من الضرورة أن تكون الشخصية الصنمية (الوثن) شخصية إيجابية، فالوثن يكون على الأرجح من نتاج فعل صناعي أو فنّان ماهر قام على سكبه وزخرفته وتزويقه وتلوينه ليسلب الألباب، ولكنه يحتاج إلى قوة سحرية غامضة تجبر الناس على الطواف حوله، وتعظيمه وتبجيله، وهذه القوة مصدرها الرغبة / الرهبة، وتستمد جبروتها من عنصرين أساسيين، وهما: العسكر، والكهنة أو العقول التي تمثل الفكر والفلسفة والآلة الإعلامية، أي القوة المادية والمعنوية، ومن جرّائها يتم مسخ العقول والأجساد، فيفقد التابع شخصيته المستقلة، وبذلك فإن الناس الذين يتبعون دين الوثن ويذعنون لأوامره، وينتحلون ترّهاته من دون بينة ولا برهان، هم مفاتيح العدو لفك مغاليق أسوار الأمة، والأدلاء لهم على اغتصاب جغرافيتها، وتمهيد السبل لانتهاك حرماتها، وهم يعتقدون أنهم يصونونها من كل دخيل، ويحفظونها من كل مارد أثيم، ولكنهم لا يشعرون بما يمكر لهم الآخرون، لأن الوثن يكون لهم بمثابة العصابة التي تحجب عنهم رؤية الحقيقة، ومن أخطر مظاهر التخلف والصراع والتمزّق في المجتمع الكردي هي الوثنية، وتفشي ظاهرة عبادة الشخص، ولا أدل على ذلك غير ابتداع عبارات كهنوتية تبرّر التبعية وتدجّن الملايين على التصوّف والتقليد (بمفهوميه السني والشيعي)، وقبل ذلك بمفهومه التوراتي، فالنبي إبراهيم هاجر من “أور” الكلدانيين لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، وكانت هجرته ثورة في حدا ذاتها على الطغاة، ولكن في مرحلة استقرار العبرانيين في مصر تعرّفوا على أصنام المصريين وافتتنوا بعبادتها، كما تأثروا بثقافة الفراعنة التي تمجّد (فرعون) وتجعله إلهاً، وفي القرآن الكريم (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) الآية 38 سورة القصص)، فعادوا تاريخيا إلى الوثنية، وفي التوراة ( وعبدوا الأصنام التي قال الربُّ لهم عنها لا تعملوا هذا الأمر )، سفر الملوك الثاني12:17. فإبراهيم عليه السلام الذي عاش بين الكرد ثلاثين سنة في حرّان، لم ينسف الأصنام الحجرية فقط، بل أيضاً عمل على نسف الأوثان البشرية، ولكن الشعب من بعده عاد إلى تأليه قادته وملوكه، وبذلك أعاد للأوثان أمجادها، وقصة العجل عند اليهود معروفة، فقد تم نقل عبادة العجل المسمَّى الإله (هاثور) عند المصريين الى الديانة اليهودية، يقول الباحث “ريتشارد ريفز” في كتابه “مدة طويلة تحت الشمس”: “لقد كان الثور والبقرة أي “هاثور” و”أبيس” من آلهة مصر القديمة ورمزين لعبادة الشمس، وبني إسرائيل الذين عاشوا قلة مستضعفة في هذا المجتمع الوثني تأثروا بشكل شعوري ولا شعوري بهذا الجو الوثني فما إن رأوا بعد خروجهم من مصر قوماً يعبدون العجل حتى طلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً مثل آلهة أولئك”، وبالتالي فإن تعظيم الملوك أو الأمراء والطغاة تأتي من التعمية الشعورية واستلاب العقل لدى الجماعة تحت ظل ظروف معينة من التأثير وأحياناً تحت سيطرة قوة مهيمنة تفرض هذه العبادة بأشكال مختلفة منها الاستلاب الفكري والعاطفي بتأثير آليات الخوف والطمع أو الرهبة والرغبة، ولذلك كان السجود والطاعة العمياء للملوك / الطغاة / عادة متفشية في الشرق القديم، لأن الملك كان يتحول من طبيعته البشرية إلى الطبيعة اللاهوتية بفضل التعمية الفكرية والشعورية، وهذه الظاهرة المعروفة ليس معني بها الملوك والقادة العسكريين الذين يتصفون بالدكتاتورية، ولكنها تشمل رجال الدين والكهنوت وقادة الأحزاب والمثقفين، والتعمية يمارسها الأتباعُ من الدائرة المقربة للوثن، لأنهم الأكثر استفادة من هذه الظاهرة، وهؤلاء يمسكون بخيوط اللعبة، ولكنهم الأشد تقديسا للوثن رغم معرفتهم الجازمة بحقيقته، وذلك لارتباط وجودهم العضوي بوجود الوثن، فهم الكهنة والسدنة، وموت الوثن أو انهياره يعني حكماً انهيارهم، وهؤلاء يحرسون المجامر والأنصاب والأزلام، ويسهرون على تقديم القرابين في أوقاتها المحددة، وإقامة الطقوس والاحتفالات، والعبادات والصلوات، وهذه الطقوس هي التي تحافظ على استمرارية التبعية والموالاة للجماعات التي مهمتها السمع والطاعة من خلال التلقين ومن ثم التنفيذ من دون التسويغ والتبرير، وقد تحولت طقوس العبادة القديمة في العصر الحديث إلى المسيرات والاحتفالات والمظاهرات والاعتصامات، وابتداع الأهازيج والأناشيد التي تمجّد الوثن، ومن هنا فإن القادة السياسيين في العصر الحديث استطاعوا أن يسلبوا هذا التقديس من رجال الدين، ومن الملوك، وأن يتربعوا على عرش الوثنية من خلال طرح شعارات سياسية تساير طموحات الشعب وتطلعاته، ولكنها شعارات خلبية لا تسمن ولا تغني من جوع، والتغلب عليها يحتاج إلى تغيير جذري في الوعي، وفي الثقافة، وترسيخ الفكر المنطقي الحر، بعيداً عن التعمية والاستلاب والخضوع، وهذه هي مهمة المتنورين والمثقفين الأحرار، حيث اعتادت فئات الانتهازيين على توظيف مفهوم المقدس لتسويغ سياساتها وممارساتها التي تعصف بالمجتمع، وتنكّل بالناس، وتبرر كل تصرفاتها بناء على أقوال وأفكار القائد الملهم الذي يعدّ إله الخصب والانبعاث، ومن دونه يحلّ العقم، وتفنى الكائنات، فهو الإمام المعصوم، وظل الله في الأرض، ومن هنا فإن قراراته وأفكاره هي نبوءات لا يجوز دحضها أو نقدها، وبذلك يتم ترسيخ فكرة العصمة بصورة لا واعية في أذهان المريدين والأتباع، وهي تأتي عبر جملة من التصورات والعواطف والأخيلة الغيبية التي تنأى عن التفكير العقلاني والمنطقي، ومن خلالها تنبثق ممارسات وردود أفعال آنية وسلوكيات غير مدروسة أو متأنية، قد تكون سبباً في كوارث اجتماعية أو دافعاً للاحتراب والنزاعات الهدامة، وتقود إلى أقصى حالات التخلف والاندحار .

إن محاولات استعادة التوازن الإنساني والتخلص من هيمنة الوثن ، تستلزم الاصطدام المباشر بأفكار التأليه، وهالات التقديس، ونسف الأوهام والخرافات التي تحرس الوثن من الانهيار،   وكشف مخبوء الإرث التاريخي المدجج بالتزييف والتزوير، وتعرية أخلاقيات التملق والنفاق والمديح والثناء.

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 32 بتاريخ 2015/12/1

مقالات 2

 

التعليقات مغلقة.