الكرد … وسوريا الفوضى

32

دكتور ناصر” النظام سبب الداء الذي لم يعد هناك أي مبرر لوجوده, إلا أنه نجح في فرض معادلته بالعسكرة ثم دفعها نحو الدعشنة والتطرف ” 

 يصعب مجاراة سرعة تطور الأحداث في سوريا وما تولدها من تاثيرات قد تكون هائلة في توجه الحالة سلبا أو إيجابا, كاحدى خصائص حالة “الفوضى العمياء” التي دخلتها, هذه الحالة التي تحتاج إلى رؤية موضوعية من خلال اعتماد النهج الصحيح المفضي للحقيقة في الرصد والمتابعة والتحليل, مع الاخذ بعين الاعتبار أن النظريات النيوتينية والانشالينية وحتى الكمومية ماعادت قادرة على إظهار الحقائق كاملة, تمكن المرء من الفهم الموضوعي الصحيح الذي يشكل منصة انطلاق نحو المعالجة, أو على الاقل التوجيه نحو حالة الاستقرار التي فقدت بفعل عناصر دخلت او ادخلت للمعادلة السورية الكثيرة المجاهيل اصلا والتي ماعاد من الممكن لا ارجاعها للوراء ولا الاستمرار في التقدم, ولا حتى معرفة الطريق السليم الواجب اتباعه.

تتراكم التعقيدات وسط أعداد لا متناهية من الاحتمالات والسيناريوهات. وهذا يستدعي نهجا صحيحا يتناسب والتطور العلمي المعاصر, بتوصيفاته ومصطلحاته ومفاهيمه المتجددة القادرة فعلا على الاقل على توضيح الصورة الحقيقية للقضايا المجتمعية المعقدة التي تتداخل فيها كل العوامل بكل الأشكال والأنواع بدءا من الاسباب والنتائج, الزمان والمكان, الشكل والمضمون, الحاسم والمؤثر, الأولي والتالي وغيرها من الأمور التي يستوجب فهمها استقدام المخزون الثقافي الإنساني والمجتمعي الذي تتداخل فيه نظريات النسبية مع الكمومية والكايوس وغيرها, لتساعدنا على التخلص من ضبابية المشهد وهلامية الحالة وعماء الحل نحو الوضوح.

سوريا تعيش حالة من “الفوضى العمياء ” أو كما يسميه البعض ” العماء “, وهذا يختلف عن مجرد الفوضى المعروفة التي تعني مجرد غياب النظام وسيطرة الاضطراب والتشتت, ويعني الدخول إلى حالة بعيدة كليا عن الاستقرار, تزول فيها الكثير من المعالم والخطوط, وتسود حالة من اللاوضوح, تبقي معها الأوضاع منفتحة على مجموعة هائلة من الاحتمالات لا يمكن تحديدها, وسط حالة من فرط تدخل وتمازج العوامل الداخلة في التفاعلات المجتمعية المعقدة المركبة التي تسفر احيانا عن نتائج غير متوقعة تفككية او اندماجية متمايزة التأثير والقوة. فما كان يبدو حتى الامس ضئيلا مهملا بتنا ندرك اليوم أنه حاسم في التفاعلات والعكس صحيح, أي أننا بالتأكيد أمام نهج جديد يتناول الحدث ككل من أوسع مداه لينغمس في أدق التفاصيل, يدمج الأبعاد ويظهر الصورة الكلية المفصلة الى حد ما يتجاوز الحالة الكلاسيكية المعروفة تصنيفا وتوصيفا وفاعلية.

هكذا فقط يمكن فهم الحالة السورية على انها الفو-ضى ( الاصطلاحي وليس اللغوي ) وعليه يمكن استيعاب بعض تفاصيل اللوحة بكل تداخلاتها وضبابيتها وهلاميتها وعماها, وأنه يتداخل فيها عددا هائلا من القوى والمكونات والعوامل والمؤثرات التي تتمازج وتتداخل بنسب مختلفة وتولد ألوانا لا نهاية لها وتستمر تفعل فعلها دون توقف عند حد معين, قد يستمر بانتاج الجديد الذي يدفع باتجاه الاستقرار, او باتجاه تعميق الأزمة والفوضى نحو استفحال الهلامية والضبابية والتوحش, لتطال كل شيء حتى المجتمع وعناصره المادية والمعنوية ويبقيه عرضة لكل الاحتمالات.

كل العالم يتصارع في سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر, افكار وتيارات وفصائل ومشاريع وايديولوجيات ودول ودويلات ومنظمات وشعوب وطوائف واديان ومذاهب و ..إلخ  تتصارع في ساحة هائلة تمتد من الفكر والعقائد حتى اكثر اشكال الحروب خسة ودناءة وتدميرا وذبحا وحرقا واللوحة لا زالت تتواصل, انها حرب عالمية بانتشارها وتنوعها ومشاركيها وعمقها واساليبها, ولازالت التطورات والتغيرات مستمرة ومتواصلة تنتشر كبقعة الزيت التي يحتمل ان تصل إلى كل مكان.

تزايد اعداد ومستوى الدول المشاركة كل يوم لا بل كل لحظة احيانا, وتوسع توزع وانتشار جغرافية عمليات داعش, تطور وسائل الحرب وتنوع اساليبها المتزايد يؤكد أننا لازلنا أمام صراع مجهول النتائج كليا او جزئيا وأن كل الإحتمالات لاتزال قائمة.

لا يمكن فصل القوى في سوريا بشكل ميكانيكي. لكن محاولة تصنيفها لكتل تسهيلا لدراستها قد تكون مفيدة, اذ بدأت القوى وفق مواقفها المستندة لمصالحها واهدافها ومواقعها تصطف لثلاثة كتل متصارعة وفقا للعناصر الداخلية الرئيسة للصراع. النظام, داعش والنصرة وأخواتها, وكذلك وحدات حماية الشعب ومتفقيه وقوات سوريا الديمقراطية.

النظام سبب الداء الذي لم يعد هناك أي مبرر لوجوده, إلا أنه نجح في فرض معادلته بالعسكرة ثم دفعها نحو الدعشنة والتطرف, ونظرا لدور المال السياسي الحاسم وتحول تلك الفصائل لتبعيات مالية خليجية وتركية, فانها انهارت بين فكي كماشة النظام – داعش والنصرة وملحقاتها, فتبعثرت وبايعت واستسلمت, وتحولت لتوابع رخيصة للتحالف الاقليمي المتمثل بتركيا – السعودية – قطر, والذي لايزال يحاول أن يسوق المنظمات الارهابية الاسلامية خارج داعش بمن فيها القاعدة وغيرها على انها قوى معتدلة ديمقراطية.

بقيت وحدات حماية الشعب تغني بمفردها خارج السرب, وتعرضت للنقد والتهامات والهجمات من كل الأطراف, لكنها حافظت على نفسها ومناطقها ونجحت كثيرا في التصدي للجماعات المرتزقة والارهابية – حتى قبل التنسيق مع التحالف الدولي- وبنت اتفاقيات مع بعض القوى الديمقراطية وعليها تمكنت من بناء نوع من الادارة الذاتية وتحولت إلى إدارة الأمر الواقع واستمرت في المقاومة وتمكنت من التنسيق مع التحالف الدولي وتوسيع قاعدة التحالف مع الفصائل الاخرى فكانت قوات سوريا الديمقراطية التي باتت تشكل نموذجا سوريا مقبولة لبناء سوريا ديمقراطية تعددية لامركزية فيدرالية.

المشاركة الروسية جاءت لانقاذ النظام واعادة التوازن الذي انهار بتأثير الدعم الخليجي التركي للمجموعات الجهادية, وربما انقاذ الاسد مؤقتا والدفع باتجاه حل سياسي يحمي مصالحها هي ايضا, وتفجيرات باريس دفعت بفرنسا نحو فاعلية اكثر لضرب داعش بعد ان كانت اولوياتها استهداف الاسد. وكان اسقاط الطائرة الروسية حدثا نوعيا عقد الوضع أكثر رغم ان نتائجها لم تتبين بعد.

تحركات دولية نشطة لكنها لا تزال بعيدة عن الحل, ولازال كل شيء في سوريا متحرك وقلق, ولازال الوضع منفتحا على كل الاحتمالات, وهنا لابد من السؤال ماذا عن مستقبل الكرد؟؟

الوضع الكردي واضح ومعقد.. وضمان الحقوق الكردية في هذه اللوحة يحتاج لمزيد من الاصرار والعمل واستنفار كل طاقة كل الشعب في هذا الصراع المنفلت مع الاشارة إلى أن ما حققته وحدات حماية الشعب وحلفائها يجعل منها عنصرا للحل خصوصا أنها تحظى بتعاطف ودعم دولي لابأس.

تبقى المهمة اذا مزيدا من الوحدة الكردية في روجآفا, ومزيدا من التنسيق والعمل المشترك مع كل المكونات السورية وقواها الديمقراطية وفق برنامج ديمقراطي, كل هذا وسط دعم الموقف الكردستاني الموحد الشامل في اطار صيغة توافقية قد تكون مؤتمرا وطنيا كردستانيا أو ما يشبهه.

أخيرا لابد من التذكير ان فرصة تاريخية رائعة لتأمين الحقوق الكردية ولدت, والتاريخ والشعب لن يغفر للحركة السياسية فشلها هذه المرة. مع العلم أن كل الاحتمالات واردة, والاعتماد على منطق الحتمية لن ينقذ شيئا.

*رئيس مكتب العلاقات في هيئة الدفاع(كانتون الجزيرة)

 

 نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 32 بتاريخ 2015/12/1

مقالات 2

 

التعليقات مغلقة.