” الليرة السورية على صفيح ساخن “
أمام التراجع في قيمة الدخول الحقيقية لأصحاب الدخل المحدود، شهدت الأسابيع الأخيرة تدهوراً واضحاً في سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، وهذا ما ترك آثاراً واضحة على أسعار السلع والمواد الاستهلاكية الرئيسة؛ وأسعار معظم الخدمات في السوق المحلية لتصل إلى مستويات قياسية لم تصلها من قبل. الأمر الذي يتسبب في صعوبة تأمين المواطنين لاحتياجاتهم اليومية من السلع والخدمات.
وللحديث عن أسباب الارتفاع الكبير في سعر صرف الليرة السورية الذي تجاوز نسبة 500% لتفقد الليرة أكثر من 85% من قيمتها؛ يمكننا التوقف أولاً عند سياسة المصرف المركزي بالتدخل في سوق الصرف بهدف وقف التراجع في قيمة العملة المحلية والتي أثبتت فشلها الذريع بتجاوز سعر الصرف 330 ليرة سورية لكل دولار أمريكي؛ خاصة أن ذلك التدخل لم يكن حقيقياً ولم يتجاوز حدود التصريحات الإعلامية في معظم المرات. مما شكل عاملاً نفسياً سلبياً على السوق ومؤشراً واعترافاً صريحاً من الحكومة بتضعضع قيمة العملة المحلية.
وحيث تحتاج السوق المحلية ما بين 15- 17 مليون دولار يومياً لتغطية إجازات الاستيراد المنفذة وغير المنفذة بحسب وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية السورية؛ يغطي المصرف المركزي منها نسبة 10 – 12% فقط، ليبقى الباقي عجزاً يتم اللجوء إلى السوق السوداء لتأمينه مما يزيد من حجم الطلب على الدولار وبالتالي ارتفاع سعره.
إضافة لذلك فقد تراجعت احتياطيات المصرف المركزي من النقد الأجنبي خلال السنوات الماضية من عمر الأزمة من 18 مليار دولار إلى أقل من 4 مليارات وذلك بسبب انعدام مصادر تعويضه؛ فقد توقفت صادرات النفط والتي كانت تشكل المصدر الرئيس للقطع الأجنبي بسبب فقدان الدولة سيطرتها على معظم الحقول الرئيسة المنتجة للنفط في سورية. وتراجعت قيمة وكمية معظم الصادرات الأخرى، بسبب العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضت على النظام السوري من قبل الدول الغربية من جهة؛ وبسبب توقف عجلة الإنتاج الصناعي في الكثير من مواقع الإنتاج المادي والخدمي من جهة ثانية. فضلاً عن تراجع حصيلة القطع الأجنبي في قطاع السياحة إلى مستويات وصلت أحياناً إلى ما دون الصفر. مما اضطرت الحكومة للاستدانة محلياً وخارجياً لتغطية الإنفاق العام (ليصل الدين العام إلى نسبة 147% من حجم الناتج المحلي عام 2014 حسب تقرير صادر عن المركز السوري لبحوث السياسات بدعم من الأمم المتحدة عام 2015)..
كما ساهم ضخ كميات كبيرة من الأوراق النقدية الجديدة من فئة 1000 ليرة وبدون أية تغطية إلى ازدياد الكتلة النقدية داخل السوق مما أدى إلى انخفاض في قيمة العملة المحلية. وشكل منعكساً نفسياً لدى التجار في السوق بازدياد الطلب على الدولار نتيجة ارتفاع سعره. ليشكل عاملاً مباشراً في ارتفاعات متواترة لسعر الدولار مقابل الليرة السورية. حيث كان المصرف المركزي قد أعلن بأنه سيتم ضخ 70 مليار ليرة من الفئة النقدية الجديدة على أن يتم سحب كميات مقابلة لها من الفئات النقدية الأخرى المهترئة. الأمر الذي لم يلحظ القيام به أبداً. فمن خلال متابعة المبالغ التي كانت الحكومة تصرفها للفلاحين لقاء فواتير الحبوب في المصرف الزراعي بالقامشلي مثلاً كانت معظمها من الفئات النقدية القديمة والمهترئة وخاصة فئة الـ 200 ليرة وفئة الـ 100 ليرة وفئة الـ 50 ليرة.
من جهة أخرى فقد أدى ارتفاع أسعار المشتقات النفطية وخاصة المازوت وندرة الكميات المطروحة منها في السوق السورية إلى ارتفاع أسعارها (بالرغم من انخفاضها عالمياً نتيجة انخفاض أسعار النفط) وبالتالي ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل للكثير من السلع والخدمات والتي ترتبط أسعارها مباشرة بسعر المازوت.
وأمام سياسة ترشيد المستوردات التي انتهجتها وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية في سورية الفترة الأخيرة؛ فقد تنامت ظاهرة تهريب السلع إلى السوق الداخلية وهذا ماشكل ضغطاً إضافياً آخر على سعر صرف الليرة السورية.
ويأتي ارتفاع نسبة البطالة المقنعة إلى مستويات عالية بسبب نزوح الكثير من العاملين من مناطق عملهم إلى محافظات أخرى واستمرارهم بقبض مرتباتهم كأحد العوامل التي تساهم بزيادة حجم المعروض من الليرة السورية بدون أية تغطية إنتاجية إلى جانب صرف التعويض المعيشي (4000ليرة) للعاملين في الدولة وليضاف عليها الزيادة الأخيرة في الرواتب والأجور (2500) وأيضاً بدون أية تغطية إنتاجية أو تأمين أي مورد مالي حقيقي لتمويل تلك الزيادة مما ينعكس انخفاضاً في قيمة الأجور الحقيقية وارتفاعاً في مستويات الأسعار.
وحيث تعيش سورية أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة، تتمثل في انعدام الاستقرار الأمني، وتضرر المناخ الاستثماري، مما أدى إلى هروب رؤوس الأموال المحلية، وتوقف تدفق الاستثمارات الخارجية، وخروج الكثير من المعامل والمصانع من دائرة الإنتاج. كل ذلك سبّب تراجعاً كبيراً في القدرة الإنتاجية، وتوقفاً للاستثمارات في معظم القطاعات الاقتصادية الرئيسة، وانخفاضاً في حجم الناتج المحلي والدخل الوطني، ودفع بالكثير من المواطنين وأصحاب المؤهلات العلمية والكفاءات إلى الهجرة خارج القطر؛ بأعداد هائلة غير مسبوقة خلال الشهر الماضي. نتيجة التسهيلات التي قدمتها العديد من الدول الأوروبية؛ وفتح باب اللجوء في ألمانيا أمام أفواج المهاجرين. مما ساهم في ارتفاع حجم الطلب المتزايد على القطع الأجنبي لتغطية نفقات الهجرة، إضافة لخسارة تلك العقول والخبرات، الأمر الذي شكل عاملاً إضافياً في ارتفاع سعر الصرف وتراجعاً في قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي.
وهنا كان لا بد من البحث عن حلول إسعافية سريعة توقف التدهور الحاصل في قيمة الليرة السورية أولاً، ثم يجري البحث فيما بعد عن استراتيجيات مناسبة لدعم قوتها وضمن الإمكانات الاقتصادية المتاحة والمحطمة أصلاً نتيجة الأزمة. وتتلخص هذه الحلول من وجهة نظرنا في ما يلي:
– على المصرف المركزي تغيير السياسة النقدية التي ينتهجها بالتدخل في سوق الصرف والتي إن تؤدي إلى نتائج إيجابية؛ فإنها لن تدوم سوى فترة قصيرة، لتبدأ آثارها السلبية بالظهور سريعاً وبشكل مستمر كما حصل خلال الفترة الماضية. وأن يكون التدخل في الحالات القصوى ويشكل رادعاً حقيقياً أمام التدهور وبفاعلية عالية ولفترات قصيرة جداً.
– البحث عن مصادر أخرى لتأمين القطع الأجنبي لتمويل عمليات استيراد السلع والبضائع وتغطية نفقات السفر والعلاج لخارج سورية ودفع مستحقات طلبة البعثات الدارسين في الخارج؛ وذلك عن طريق إصدار سندات خزينة من قبل المصرف المركزي للسوريين داخل وخارج القطر وبمعدلات فائدة منخفضة ما أمكن تضمن الحكومة من خلالها توفير ولو جزء من القطع الأجنبي اللازم لتمويل أنشطتها الضرورية المذكورة آنفاً.
– التوقف عن أية عملية استيراد غير ضرورية تستنزف رصيد القطع الأجنبي.
– العمل على تنشيط حركة التحويلات المالية التي ترد من الخارج عبر شركات الصرافة أو البنوك إلى الداخل وذلك بانتهاج سياسات تشجيعية محددة ومحسوبة الهدف.
– توفير كل الدّعم اللازم لتلك المنشآت التي تنتج سلعاً تصديرية وإعفاءها من الضرائب والرسوم ما أمكن ولفترة خمس سنوات مقبلة.
– توفير سلع بديلة محلية قدر الإمكان لتلك السلع المستوردة أو لجزء منها، وانتهاج سياسة المقايضة بالسلع المنتجة محلياً وبالتالي توفير كميات من القطع الأجنبي المخصص لاستيرادها.
– التوقف عن أية إصدارات نقدية جديدة تساهم في زيادة المعروض من الكتلة النقدية بدون تغطية إنتاجية أو قطع أجنبي لأنها تؤدي إلى تراجع في القوة الشرائية للنقد وارتفاعاً في معدلات التضخم.
وعلاوة ما ذكر من الإجراءات الاقتصادية وغيرها لا بد من العمل على إيجاد حل سياسيّ للأزمة التي تعيشها سوريا منذ أكثر من أربع سنوات ونصف تسببت خلالها المواجهات المسلحة بجر البلاد واقتصادها إلى حافة الهاوية. ودفعت بنسبة عالية من السكان إلى النزوح ومغادرة البلاد. لأنه (حتى لو لم نرَ أي ضوء في نهاية النفق يجب استمرار الاعتقاد بوجود ضوء ما وبقرب ظهوره).
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 29 بتاريخ 2015/10/15
التعليقات مغلقة.