التدخل الروسي: سورياً كردياً
“محصلة المشهد وفحواه؛ سوريا تدخل مرحلة جديدة (عالية) التعقيد سِمَتُها الفوضى التي سبّبتها استبداديات ثلاثة: استبداد النظام؛ استبداد غالبية صنوف المعارضة؛ الاستبداد الدولي تحقيقاً لمصالحها، وفي كل الأحوال الشعب السوري وحده يدفع التكلفة”
المتتبع للشأن السوري يستنتج أهم حقيقة متفق عليها من قبل جميع الفرقاء المتصارعة ومن ورائهم ومن أمامهم الأفرقاء الدوليين؛ مفاد هذه الحقيقة أن الحل للأزمة السورية يكمن في المستقبل البعيد، حيث من المحال أن يمكن التكهُّن به حالياً وفي المستقبل القريب أيضاً، كما أنهم يتفقون على أنْ التدخل الروسي سيخرج –علماً أنه لن يخرج- بنتيجة إيجابية لصالح النظام، ومثل هذه النتيجة لا تحتاج إلى عناء التحليل خاصة موقفه الداعم للنظام منذ بداية هذه الأزمة المشهود لها حين ذاك بالانتفاض الشعبي. أما النتيجة الإيجابية التي يتم الحديث عنها فهي المحاولة المستحيلة التي سيقدم عليه الروس بسحب الأطراف إلى المركز؛ كي يضمن بذلك على الأقل ما يسميه الروس بـ (سوريا المفيدة) من دمشق إلى رأس البسيط مع أجزاء من حمص وحماة وإدلب وحلب، أي تأصيل لحديث التقسيم وتطبيق لعشرات الخرائط التي عجت ظهراني الصحف ومجلات الدراسات الاستراتيجية. مثل هذا الفهم ليس متعارضاً مع السياسة الأمريكية قائدة التحالف الدولي العربي الستيني بعكس غالبية التصاريح التي تطل معلنة خلاف ذلك، إذْ ليست مصادفة أن يتشكل التحالف الدولي ويعلن الحرب على الإرهاب قبل سنة كاملة من التدخل الروسي، وكليهما لم يتشكلا بشكل ارتجالي؛ على عكسه تماما؛ إنما احتاجا حتى الإعلان إلى عديد من الأشهر المتخللة بعقد عشرات اللقاءات. وكليهما متفقان أيضاً على ثلاث نقاط رئيسة: أولاها؛ بقاء رأس النظام في المرحلة الانتقالية عبر ما يُسمى – في أزقة المصلحات -(التحول المسيطر عليه)، وهذا ما تريده بشكل عملي مجموعات دي مستورا. وثانيها؛ محاربة التنظيمات الإرهابية؛ الاتفاق على أشده في محاربة داعش، والاختلاف على ما عداه؛ رغم التصنيف الإرهابي لغالبيتها والاصرار اللامتناهي ذو المصدر التركي والقطري وغيرهما على إضفاء صفة الاعتدال على بعضها، أما النقطة الثالثة المتمثلة بالاتفاق على إطالة عمر الأزمة من خصوصية التوازنات الدولية الإقليمية ومصالحها دون عناء الالتفات إلى مطاليب الشعب السوري؛ المُهجّر؛ المُرحّل؛ التائه؛ المحجوز على أشده.
المشهد السوري مقلوب على رأسه؛ مثل أن الشعب السوري مغلوب على أمره؛ وبقاء الوضع مقلوباً مدة أطول سيؤدي بالضرورة إلى وقوع اليدين في جهة، ووقوع الرجلين في جهة أخرى، ووقوع الجذع في جهة مختلفة، ليبقى الرأس على حاله بوضعه المقلوب أيضاً، وعملية اللملمة ستكون أشبه بالمهمة المستحيلة؛ في ضوء التدخل الدولي والإقليمي الكبيرين في سوريا، وفي الوقت نفسه في ظل الانقسام الشديد للمعارضة واتِّباع غالبيتها أسلوب النظام الاستبدادي في التعامل مع قضايا التحول الديمقراطي في سوريا وعلى رأسها اللامركزية الديمقراطية؛ الجواب الأجدر على المركزية التيوقراطية المولِّدة للاستبداد والمتعكزة لكل المشاهد المُخّلّة المشهودة بها على الساحة السورية، والنظام بدوره – كما عادته- مُفّشِّلٌ نوعي في أي لقاء، أو عدم قدرته على إعطاء أية بادرة يُسْتَشف منها أنه مقدم على التغيير، قراره الملزم للسلك التعليمي في روجآفا يعد مثالاً ناصعاً أن هذا النظام من الاستحالة إصلاحه. أما التدخل الروسي فَزاد المشهد تعقيداً خاصة أن وضوح أهدافه العسكرية تأتي دون عناوين سياسية سورية، وحيث أن محاربة الإرهاب يعد بمثابة النصف الأول من معادلة الحل السورية المُتمثِّلة بإحداث التغيير السياسي ومحاربة الإرهاب في سوريا وفي الوقت نفسه، وأيّ انزياح لصالح أحد طرفيْ المعادلة يشكل تقويض آخر لأي حل محتمل، وفي الوقت نفسه يعني التعثر المتوقع في غياب كامل لأي غموض بنّاء حينما يتعلق الأمر بتسيير مفاوضات بين الأطراف السورية، والمفاوضات بمجملها تعتمد الغموض البناء.
سيكون من غير الأنصاف حين القول بأنّ التدخل الروسي؛ كما التدخل التحالف الدولي؛ سيكون له العوائد الإيجابية على روجآفا، علماً أن الأخير من سبق تدخل التحالف بعامين وسبق تدخل الروس بثلاثة، في حين أن التدخلين العسكري؛ الأمريكي والروسي جاء وفق حسابات الدول العظمى ووفق أجنداتها وما تعانيها من مشاكل ووفق ما تستطيع حله في السماء السورية؛ بحيث أن الأرض ما تزال مقتصرة على وحدات حماية الشعب والمرأة كأهم عنصر أرضي في مواجهة الإرهاب، كجزء من المعارضة المعتدلة الحقيقية للتحول الديمقراطيّ، وهذا ما يجعل أمر الحل غير ممكن دونه؛ حينما الحديث أصلاً عن الحل، وليس الأمر كما يطرحه بعض الأحزاب الكردية وبعض الشخصيات الكردية التي تعادي الحل أساساً من خلال تقارباتها الخاطئة وتصوير المشهد الثوري بأنّها محض (كعكة) يجب تقاسمها وإلا عنصر المعاداة موجود؛ شخصيات كردية أصابها التهافت الفكري والسياسي والقصور الثقافي الحاد وبدأت بكتابة عدة مقالات لأنها تألمت حينما شاهدت مؤتمر حزب الاتحاد الديمقراطي أصبح نموذجاً للمؤتمر الوطني الكردستاني، وأحزاباً كردية تتماوج مع رغبة حكومة العدالة والتنمية التركية المعادية لأي تحرير يتم عن طريق وحدات حماية الشعب، وهؤلاء الأحزاب لا توفر تشويها -مُمَلىًّ عليها من قبل التركياتية البيضاء والخضراء وهذه الأيام السوداء- فقط هام همومها نصف الكعكة وليس سواها.
محصلة المشهد وفحواه؛ سوريا تدخل مرحلة جديدة (عالية) التعقيد سِمَتُها الفوضى التي سبّبَتها استبداديات ثلاثة: استبداد النظام؛ استبداد غالبية صنوف المعارضة؛ الاستبداد الدولي تحقيقاً لمصالحها، وفي كل الأحوال الشعب السوري وحده يدفع التكلفة. أما مركز الاستبداد ناجمٌ عن الدولة على أساس التعصب القومي كسلطة مدمرة لمجتمعاتها وفي الوقت نفسه؛ الخادمة الوفية لكل الاملاءات الخارجية، والدولة القوموية هو الإله الهابط من السماء الذي يدعو فقط لعبادته والخنوع له ولن يهمه حجم التدمير المجتمعي الذي يقترفه حتى يبقى صنماً مفروضاً على شعبه؛ ويبقى أداة بيد من نصبه وينحيه عند انتهاء مهامه. خلافاً لهذه الكارثة المعرفية المجتمعية؛ يحتاج شرقنا إلى مشروع ينتشله من الضحالة التي وصل إليها، ونظريةٌ تلخّص إعادة فهم للمجتمع وآلية تطوره لا تحركه فقط، وأعتقد أننا نشهد البدء من ذلك في مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، بالرغم من ميلاده الفتيِّ والظروف الاستثنائية التي خلق فيها، وهذه مجتمعة تجعله أن يبقى البديل الثوري لآفة السقوط والحبو والنكوص.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 29 بتاريخ 2015/10/15
التعليقات مغلقة.