الغرب والإسلام السياسي

23

 

                                                                                                                                                    د. سربست نبي

الغرب-والإسلام-السياسي
د. سربست نبي

الإسلام السياسيّ لم يكن في يوم من الأيام – منذ نشأته- بعيداً عن إرادات مركز القرار الأمنيّة والسياسيّة في الغرب الرأسمالي، ولم يكن بعيداً عن مصالحه السياسية وتوجهاته الآيديولوجية. بدأ في نشأته مع الاستخباراتالبريطانية والفرنسية والألمانية، وبعد الخمسينات من القرن الفائت عقدت الجماعات الإسلامية قرانها المقدس مع الاستخبارات الأمريكية لمواجهة النفوذ الشيوعي والمدّ الديمقراطي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ولم يتردد الأمريكان في تقديم كل العون اللوجستي والإعلامي لها في كل الأوقات. توّجت هذه العلاقة وبلغت ذروتها في الثمانينات حين شبّه الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان لدى استقباله لهم في البيت الأبيض قادة الجماعات الإسلامية المسلحة في أفغانستان، ومحتكرو تجارة المخدرات حينها، بالآباء المؤسسين لأمريكا. الوثائق التي تؤكد على هذه العلاقة الوطيدة، المعلنة وغير المعلنة، تكاد تملأ المحيط الأطلسي بها.

مايهمنا من هذه المقدمة هو الإشارة إلى أنه بعد تفكك المنظومة السوفيتية ( المنظومة الاشتراكية سابقاً) وانهيارها، نشأ وضع يتسم بتقاسم جديد للنفوذ بين الأمريكان وأوروبا الغربية، أخذت خلاله معظم دول أوروبا الشرقية بالتحول التدريجي السلس إلى النظم الديمقراطية الحرّة، باستثناء رومانيا ويوغسلافية، اللتين تعرضتا لأزمات ومحن عارضة تخلصت منها في نهاية المطاف. وهذا التحول ماكان ممكنا إلا بدعم الدول الغربية وحلف ناتو ورعايتهما. إذ حاولا احتواء تلك الدول ودمجها ضمن منظومتها السياسية والأمنية، للحدّ من النفوذ الروسي الآخذ بالإنكماش والتردّي حتى وقته.

أما الدول الشرق أوسطية، ومجموع الدول الإسلامية، التي كان يحكمها نظم قومية أو اشتراكية مستبدة وفاسدة، تابعة لهذا الحلف أوذاك، فلم تكن في نيّة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية القبول بتحول ديمقراطيّ على غرار دول أوروبا الشرقية، بل كانت تتوجس من هذا التحول، الذي كان من شأنه أن يضع هذه الدول على عتبة الاستقلال التام من تبعيتها. كان التحوّل الديمقراطي لهذه الدول والمجتمعات على الضد من المصالح والرغبات الأمريكية والأوروبية الغربية. بعد هذا التاريخ أخذت الدوائر والمؤسسات الآيديولوجية والجامعات على عاتقها التبشير بنمط جديد من الإسلام الآيديولوجي المعتدل الذي يتوافق من منظور مصالحها السياسية لأمريكا والغرب في المنطقة، مع ما تهدف إليه من استمرار هيمنها وتكريس تبعية هذه النظم والمجتمعات لها وقدمت في هذا السياق النموذج الأردوغاني في تركيا وروّجت له كبراداي للنظم السياسية الإسلامية المعتدلة، ودليلاً حيّاً على نجاحها الاقتصادي والاجتماعي. وبشّر بهذا النموذج السياسي الذي يمكن أن يكتب له النجاح في معظم الدول الإسلامية دون الحاجة إلى أي تحوّل ديمقراطي حقيقي على المنوال الأوروبي الغربي. بحيث يتوائم مع ثقافة هذه المجتمعات وقيمها الروحية دون أن يقوّض خصوصيتها.

بدا مفهوم الإسلام المعتدل Modarete Islsm متخماً بالمطالب الأيديولوجية والسياسية, العملية والبراغماتية, التي تستهدف توافقاً من نوعٍ ما بين المطالب الراديكالية المطلقة للإسلام وثبات مرجعيته المقدسة (النص) وتعاليها, وبين المطالب السياسية العملية والمباشرة. فالإسلام المعتدل, من وجهة النظر هذه هو إسلام متغير ومعدّل- ويكاد أن يكون محوّراً- يستجيب لمنطق العصر. يريده الغرب, بخاصة الغرب الرأسمالي, ويريده المسلمون أنفسهم بزعم أصحاب هذا الشعار. ولم يتغافل عدد كبير من المنظرين له والمروجين لهذا النمط من الإسلام عن حقيقة إنه كان مطلوباً أمريكياً أيضاً ويتعين عليه أن يتسق مع الوجهات السياسية والأيديولوجية الأمريكية ومراميها. إنه إسلام يتعايش مع الحداثة, يعترف بالآخر المختلف دينياً ويتواءم معه, ويُراد به أن يكون إسلاماً وديعاً ولطيفاً وحتى رومانسياً إنْ اقتضى الأمر, متحرراً من حالة الاحتقان الأيديولوجي ومتطهراً من وباء الكراهية ورفض الآخر. أن تكون مسلماً معتدلاً, كما عبر أحدهم, يعني أن تكون جيداً, مطيعاً ومرناً إلى أقصى حدّ في نظر المجتمع الغربي. وتصل الدعوة بالبعض إلى مديات بعيدة في المطالبة بنوع من الإسلام التاريخي, المؤسَّس على قراءة وفهم جديدين بالدين ودوره, يستجيب لمنطق الواقع ومطالبه حتى لو اقتضى الأمر انزياحاً معرفياً ومعتقدياً عن الموروث المقدس. أي إنتاج خطاب ديني معاصر يتجه إلى المستقبل ويعوّل على الحاضر حتى ولو عارض المطلقات المقدسة والعقائد في النص المقدس, وتصل الحماسة ببعضهم إلى حدّ المطالبة بتخلّص المسلمين من نصف القرآن إذا أرادوا التوافق مع العالم والانسجام مع منطق المدنية.

تلقت فكرة الإسلام المعتدل رواجاً واسعاً على المستويين السياسيّ والإعلاميّ, وقد راهنت إدارة بوش الأب على هذا التيار بمثابته حصان طروادة في هذه المرحلة لاختراق العالم الإسلامي إلى حين, مثلما راهنت الحكومات السابقة على نقيضه المتشدد في حقبة الثمانينات لمواجهة المدّ الشيوعي, بخاصة في أفغانستان. وبموازاة هذا الأمر أكّد عدد من مراكز الأبحاث الأمريكية والغربية على أن الأخوان المسلمين يعدّون النموذج الأمثل للتيار الإسلامي المعتدل في الوقت الراهن. وكانوا يشيرون عادة إلى النجاح الذي حققه هؤلاء في عدد من البلدان الإسلامية ( الانتخابات التشريعية المصرية, الانتصار السياسي والتشريعي الذي حققوه في تركيا) وبرأيهم فإنّ مثل هذا النجاح يُعدّ مصدّاً قوياً بمواجهة النمو المتصاعد للتيارات المتشددة بصفة عامة. لكن السؤال الذي يشكل محكّ اختبارٍ لمثل هذا الادعاء هو: هل شكّل الإسلام المعتدل, ضمانة دائمة وحقيقية, ليست عارضة أو زائفة, ضد التّطرف، وبخاصة في سوريا والعراق ومصر أخيراً؟ ألم تخرج جميع الجماعات الجهادية اليوم من عباءة الإخوان الأيديولوجيّة والتنظيميّة؟ ألا تمثل, دون مواربة, وجهها الحقيقي, وتجليها السياسيّ الأقصى؟ ألا تعدّ امتداداً سياسياً وعقائدياً واجتماعياً لها ؟؟ وهل يمكن عزل التطرف الإسلامي الذي نشهده في كلّ مكان عن رحمه الآيديولوجي الأصلي؟ ثم هل يمكن التنكر لدور الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في تشجيع مثل هذه الحركات السياسيّة والآيديولوجيّة وتنميتها في المنطقة؟ وهل يمكن الركون إلى قناعة تتنكر لوجود أيّة علاقة لوجستية خفيّة، وفي غاية السرية، بينها وبين الدوائرالأمنية، أو عدد منها، في أوروبا وأمريكا، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة؟ مثل هذه الأسئلة وغيرها تضع المزاعم الغربية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ومواجهةالتطرف عارية على المحك؟

نشرت المقالة في العدد  25 من صحيفة Buyerpress    بتاريخ 15 / 8/2015

 

التعليقات مغلقة.