لماذا يتجاهل المجتمع الدولي الثائرين الكرد وتجربتهم الديمقراطية الفريدة في سورية؟
الكرد في صحافة الغرب
لماذا يتجاهل المجتمع الدولي الثائرين الكرد وتجربتهم الديمقراطية الفريدة في سورية؟
في مقال منشور في جريدة الغارديان وحائز على أكثر من 35 ألف مشاركة، يقوم الصحفي ديفيد غريبر بتسليط الضوء على التجربة الديمقراطية الكردية الفريدة في سورية وبإجراء مقارنة بينها وبين الحرب الإسبانية في ثلاثينيات القرن المنصرم:
وسط الحرب الدائرة في سورية تنشأ تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها، إلا أن داعش تقوم جاهدة بمحاولة تقويض أركانها، وإنه من العار أن يجهل العالم هذه المسألة.
في عام 1937، تطوع والدي للقتال في الكتائب الدولية للدفاع عن الجمهورية الإسبانية. وكان هناك انقلاب موشك قد توقف بشكل مؤقت بسبب انتفاضة عامل يقودها الأناركيون (الفوضويون) والاشتراكيون، ونشبت ثورة حقيقية في معظم أرجاء اسبانيا أدت إلى رضوخ مدن بأكملها لإدارة ديمقراطية مباشرة وصارت المصانع تحت سيطرة العمال وتم تمكين المرأة بشكل جذري.
كان الاسبانيون يحلمون بخلق رؤية لمجتمع حر يصير قدوة للعالم بأسره، إلا أن القوى العالمية أعلنت سياسة “عدم التدخل” وقاموا بحصار صارم على الجمهورية، حتى بعد أن بدأ هتلر وموسوليني والجهات الموقعة المزعومة بحشد القوات والأسلحة لتعزيز الجانب الفاشي. فكانت النتيجة أعواماً من الحرب الأهلية انتهت بقمع الثورة ووقوع الكثير من أفظع المجازر في ذلك القرن.
لم أكن أتوقع أبدا أن أرى الشيء نفسه يحدث مرة أخرى. وكما نعلم أنه لا يمكن أن يتكرر حدث تاريخي مرتين، فما حدث في اسبانيا عام 1936 يختلف عما يحدث في روج افا (المقاطعات الكردية الثلاث في شمال سورية اليوم)، إلا أن هنالك أوجها من التشابه ملفتة للنظر ومحزنة في الوقت ذاته، مما يجعلني أشعر أنه من الواجب علي كشخص ترعرع في أسرة تأطرت سياساتها وتأثرت بالثورة الاسبانية أن أقول: “لا يمكن أن ندع الأمور تنتهي بنفس الطريقة مرة أخرى.”
إن منطقة الحكم الذاتي (روج افا) كما هي قائمة اليوم هي إحدى النقاط المضيئة، بل أكثرها إشراقا في مأساة الثورة السورية. فبعد خروج عناصر من نظام الأسد عام 2011 ورغم العداء المحيط بها من جميع جيرانها، لم تقم روج افا بالحفاظ على استقلالها فحسب، بل أضحت تجربة ديمقراطية رائعة. وقد تم إنشاء المجالس الشعبية كهيئات ومراكز لصناعة القرارات النهائية، وتم انتخاب المجالس مع مراعاة التوازن العرقي بشكل دقيق (فعلى سبيل المثال، في كل بلدية تضم ثلاثة ضباط من أعلى الرتب كان أحدهم كردي والثاني عربي والثالث مسيحي اشوري أو أرمني، وأن على أحد الضباط الثلاثة على الأقل أن تكون امرأة)، وهناك أيضا مجالس نسائية ومجالس للشباب. وفي مقارنة ملحوظة مع قوات المرأة الحرة في اسبانيا، نرى هنا وحدات المرأة الحرة YJA STAR (والنجمة هنا تعود للإلهة القديمة في ميزوبوتاميا “عشتار”) التي نفذت نسبة كبيرة من العمليات القتالية ضد قوات ما يسمى بالدولة الإسلامية “داعش”.
كيف يمكن لشيء فريد مثل هذا أن يحدث ويلقى تجاهلا من المجتمع الدولي بأكمله وحتى من قبل اليسار الدولي إلى حد كبير؟ يبدو أن السبب يكمن بشكل رئيسي في أن الحزب الثوري الروج افاوي (PYD) متحالف مع حزب العمال الكردستاني (PKK) وهو حركة فدائية ماركسية انخرطت بحرب طويلة ضد الحكومة التركية منذ السبعينات، ثم قام حلف الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتصنيفه رسميا كـ “منظمة إرهابية”. وفي الوقت ذاته قام اليساريون بالغائهم كستالينيين الى حد كبير.
ولكن في الواقع لم يعد حزب العمال الكردستاني حزبا لينينيا كما كان من قبل، فالتطور الداخلي الخاص به والتحول الفكري لمؤسسه عبدالله أوجالان المسجون في سجن الجزيرة التركية منذ 1999 قد أدى إلى تغيير كامل في الأهداف والتكتيكات.
وقد أعلن حزب العمال الكردستاني أنه لم يعد يسعى إلى إنشاء دولة كردية. فبدلا من ذلك، جاء بفكرة مستوحاة جزئيا من رؤية عالم البيئة الاجتماعية والأناركي (الفوضوي) موراي بوكتشين، واعتمد رؤية “استقلال البلديات الذاتي التحرري Libertarian Municipalism” داعيا الكرد إلى خلق مجتمعات حرة تتمتع بالحكم الذاتي على أساس مبادئ الديمقراطية المباشرة، التي من شأنها أن تلتقي معا بالحدود الوطنية – الأمر الذي من المتأمل أن يصبح مع مرور الوقت بلا معنى على نحو متزايد. وبهذه الطريقة اقترحوا أن النضال الكردي يمكن أن يصبح نموذجا لحركة عالمية نحو الديمقراطية الحقيقية والاقتصاد التعاوني والتفكك التدريجي للدولة البيروقراطية التي تقوم على أساس القومية.
ومنذ عام 2005 جاء حزب العمال الكردستاني بفكرة مستوحاة من جيش زاباتيستا* (مجموعة ثورية مسلحة من ولاية تشياباس في جنوب المكسيك)، فأعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد مع الدولة التركية، وبدأ يركز جهوده في تطوير البنى الديمقراطية في الأراضي التي يسيطر عليها مسبقا. وشكك البعض في مدى جدية كل ذلك. ومن الواضح أنه بقيت هناك عناصر سلطوية. ولكن ما حدث في روج افا حيث أعطت الثورة السورية الراديكاليين الكرد الفرصة لإجراء مثل هذه التجارب في مقاطعة مجاورة كبيرة، يرينا أن كل هذا ليس إلا واجهة زائفة. فالمجالس والجمعيات والميليشيات الشعبية تشكلت وتحولت ممتلكات النظام الى تعاونيات يديرها العمال، وكل ذلك رغم الهجمات المستمرة من قبل قوات الدولة الإسلامية “داعش”. فالنتائج تلتقي باي تعريف للثورة الاجتماعية. وفي الشرق الأوسط لوحظت هذه الجهود على الأقل وخاصة بعد تدخل قوات حزب العمال الكردستاني PKK وروج افا للقتال بنجاح ضمن أراضي الدولة الاسلامية “داعش” في العراق لإنقاذ الاف اللاجئين الكرد الازديين المحاصرين في جبل سنجار بعد أن فرت قوات البشمركة المحلية من تلك المنطقة. لقد لاقت هذه الإنجازات احتفاءً في المنطقة على نطاق واسع، ولكنها لم تلق أي اهتمام في الصحافة الأوروبية وأمريكا الشمالية.
الآن وقد عادت الدولة الإسلامية “داعش” مع عشرات من الدبابات الأمريكية الصنع والمدفعيات الثقيلة المأخوذة من القوات العراقية، للانتقام من العديد من تلك الميليشيات الثورية نفسها في كوباني، معلنين عن عزمهم على ارتكاب المجازر واستعباد – نعم استعباد بالمعنى الحرفي للكلمة – لكافة السكان المدنيين. وفي الوقت ذانه، يقف الجيش التركي على الحدود لمنع التعزيزات او الذخيرة للوصول الى المدافعين عن المدينة، ويُسمَعُ أيضا هدير الطائرات الأمريكية التي تحوم أعلى المنطقة وتقوم بين الفينة والأخرى بضربات طفيفة خفيفة. وكما يبدو للعالم من حيث النتائج، يمكنني القول ان تلك الغارات لم تفعل شيئا يدل على اسمها المعروف كـمجموعة او تحالف يدعي انه يحارب الارهاب الذي يقوم جاهدا بالقضاء واحدة من التجارب الديمقراطية الكبرى في العالم.
وإذا كان لا بد من مقارنة في وقتنا الراهن مع مجرمي طاغية اسبانيا (فرانكو) المعروفين باسم الفلانجي او الفلانخيس (1)، والذين كانوا يدّعون الالتزام، فمن سيكون الشبه الوحيد لهم سوى داعش؟! وإذا كان لا بد من المقارنة مع حركة (موخيريس ليبيريس) الحرة (2) في اسبانيا، فمن يكون الشبيه سوى المقاتلات الكرديات الشجاعات المدافعات على المتاريس والحواجز في كوباني؟!
والان هل سيتواطأ العالم وبشكل فاضح – وخاصة اليسار الدولي – ويسمح للتاريخ بإعادة نفسه وتكرار التآمر مرة أخرى؟
*هشام عرفات: مترجم كردي من روجافا ومراسل جريدة الاندبندنت البريطانية في كردستان. hisham-arafat@hotmail.com
(1) (الكتائب الإسبانية لجمعيات الهجوم الوطني النقابي (المعروفة أيضاً باسم الفلانخي أو الفلانخيس) هي التسمية التي تضم العديد من الحركات و الأحزاب السياسية التي يعود تاريخها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وعلى الأخص الحركة الفاشية الأصلية في إسبانيا.
(2) (موخيريس ليبريس): منظمة نسائية أناركية تأسست في إسبانيا – مايو 1936 و تهدف لوضع نهاية لثلاثية استعباد المرأة . . الجهل – رأس المال – التبعية للرجال.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 23 بتاريخ 2015/7/15
التعليقات مغلقة.