أمازونيات قنديل

71

1“في غرفة الاستقبال وتحت صورة العجوز المبتسم الذي يصالب بين يديه بحركة شقية ومرحة لا تناسب سنه والمسجون في ايمرالي منذ سنوات, جلس “بايك” الوقور, مرتدياً زي الكريلا, يحدثنا بكردية نقية عن سياسات تركيا ضد الكرد ودعمها لمنظمة داعش الإرهابية متطرقاً بين الحين والآخر وبشكل هامشي إلى الجزء السوري من كردستان”.

 

قنديل ليس جبلاً واحداً كما يوحي بذلك اسمه ولكنه سلسلة جبال متقاربة ومتشعبة ووعرة, ويخيّل إليك وأنت تراها من بعيد أنها خالية من الحياة, وأن ليس سوى كتل من التراب تتداخل مع الغيم, وتغطي الثلوج قممها, وتتناثر بعض أشجار العفص بشكل غير منتظم في سفوحها وأخاديدها, ولكن الحقيقة أن قنديل مكان ينبض بالحياة في أكثر من ستين نقطة آهلة تتحول في الليل إلى ستين قنديل يضيء عتمة الجبل الموحش.

بعد أقل من ساعة بالسيارة من “رانيا” باتجاه قنديل, أصبحنا داخل ” عش النسر ” الذي يمثل السلطة الثالثة غير الرسمية في كردستان العراق حيث يقيم ” جميل بايك ” رجل PKK القوي الذي يطلبه الطيران التركي بقصف لا يكاد ينقطع حتى يتواصل.

بدا المنزل الذي استقبلنا فيه ” بايك” بسيطاً جداً لا يكاد يختلف في شيء عن بيوت القرويين المتناثرة في شعاب هذا الجبل المنيع. غرفة للاستقبال وأخرى للمائدة وثالثة لا أدري ربما كانت مطبخاً أو ما شابه.

في غرفة الاستقبال وتحت صورة العجوز المبتسم الذي يصالب بين يديه بحركة شقية ومرحة لا تناسب سنه والمسجون في ايمرالي منذ سنوات, جلس “بايك” الوقور, مرتدياً زي الكريلا, يحدثنا بكردية نقية عن سياسات تركيا ضد الكرد ودعمها لمنظمة داعش الإرهابية متطرقاً بين الحين والآخر وبشكل هامشي إلى الجزء السوري من كردستان.

ولم يلبث الرجل أن استأذن لأن عليه إدخال بعض الرفاق عبر الحدود كما قال, وخمنت من جهتي أن حسه الأمني العالي قد فرض عليه تغيير المكان ليس إلا.

في قنديل وحيث لا يمكنك أن ترى عن بعد, صور مختلفة عن كثير من المفاهيم التي لوثتها المدنية… تماثيل بشرية للجدية والنشاط والاجتهاد والانضباط والمحبة وعقيدة الفداء, ونماذج من إيمان عميق ونادر ليس من السهل فهمه أنتج انضباطاً عسكرياً وجرأة في الحديث ممتزجة بأدب ملكي رفيع لا يمكنك إلا أن تتجاوب معه بل أن تحاول تقليده, نماذج خاصة من الرجال تنفي عن ذهنك صورة رب العائلة المتهالك, ونماذج خاصة من الأنوثة تضع “رجولتنا” على المحك.

“عبد الله أوجلان” حاضر دائماً في مكان ما حيث لا يمكنك أن تراه, ما أن تذكر اسمه حتى ترى على وجوه الجميع مزيجاً غامضاً من الوله والتحسر… يكاد الأمر يشبه بصورة أو بأخرى ترقب عودة الأب المسافر أو انتظار رجعة المهدي المنتظر من سراديب إيمرالي.

تعرفنا خلال استراحة الغداء بفتاتين لطيفتين هما “بريفان” و”دلال” اللتان تركتا الكلاشينكوف جانباً واتجهتا بصورة غريزية, على عادة الفتيات الكرديات عند حضور الضيوف, إلى المطبخ.

دلال مشعثة الشعر التي ترتدي شروالاً فضفاضاً تجاملنا فتبتسم بصدق وعفوية ولكن دون أن تضحك… كان من الواضح أنها غير مهتمة برأينا في مظهرها. تخرج الكردية من بين شفتيها ملحنة بموسيقا تركية عذبة تذكرك بمذيعات نشرات الأخبار.

حين سألت بريفان ( وهي من ديريك / سوريا ) عن السنة التي التحقت فيها بحزب العمال الكردستاني أجابت: تسعة عشر عام, قبل أن تستدرك فجأة وتصحح : لا…لا, بل ثمانية عشر.

– ومتى كانت آخر مرة شاهدت فيها أهلك

– لم أشاهدهم.

تقول ذلك بكل صبر وبراءة تخفي خلفها عاطفة إنسانية جياشة نجح التدريب الرجولي المتتابع في تغطيتها بطبقة سميكة من الصلابة والتماسك.

ابتسامة “بريفان” الساحرة تخترق القلب, حادثة لا تقع كثيراً أعني أن تكون شاهداً على خيطٍ من الضوء يشق عتمة كثيفة أو خيطٍ من الماء ينبجس من صدع في صخرة صلدة.

الدكتورة “بيمان” مسؤولة الرحلة تتصرف كأم محاولة التغطية على الدور المنوط بها في تدوير الماكينة الإعلامية لحزب العمال في أوساط المثقفين, إنها تمارس عملها هذا بإخلاص نادر لن تجد له مثيلاً إلا في أوساط الجيل الأول من الصحابة والحواريين.

لمعت الدموع في عينيها الذابلتين أكثر من مرة ونحن نتجول في قاعة ” الشهيدلك ” (متحف الشهداء بالتركية), كانت تتنقل بأصابعها من صورة إلى أخرى :

– هذا الرفيق التحق معي, وهذا الرفيق حارب معي ضد الديمقراطي, وهذه الرفيقة من مدينتي, وتلك الرفيقة قضيت معها سنوات… جميعهم استشهدوا. ثم تعقب وهي تنظر إلي بحنان: هل لاحظت أنهم جميعاً مبتسمون ؟!

حانت مني التفاتة فوقعت عيناي على زجاجة بداخلها حفنة تراب كانت بعض ما تبقى من تراث شهيدة كتبت عليها قبل أن تموت ( Axa Ronahî – تراب النور ).

وقبل أن نصعد إلى السيارات, قالت بيمان وهي تشير إلى ما حولها بفخر ولكن دون أن تستطيع إخفاء شعور الحسرة والحزن :

– كل شبر في هذه الأرض التي تراها أمامك اشتريناه بدم شهيد من رفاقنا.

وحدقت فجأة في عيني وسألت وهي تتوقع إجابة جاهزة ربما سبق بها أن سمعتها من كثير من السياح أمثالنا زوار اليوم واليومين :

– ها … والآن ما رأيك بحياتنا ؟ فهززت برأسي وأجبت بجملة أظنها فاجأتها:

– هذه ليست حياة.

– لماذا ؟

– أعني أنها ليست حياة طبيعية.

– إننا نعمل لأجل أن تعود الحياة طبيعية. أجابت بصرامة.

في الطريق حين قال أحدنا للرفيق “برخودان” أن هذه الشعاب يمكن أن تتحول إلى مدينة في المستقبل بعد انتهاء الحرب رد بكل براءة : ” نحن لا نحب المدن سنبني هنا قرى “.

أفكار أوجلان حول القرى والحياة الطبيعية والإيكولوجيا ورفض الدولة والمدينة والرأسمالية والقومية حاضرة دائماً وسيكون عليك أن تصطدم بها في محاورة من يحمل بندقية للحرب أو قلماً للكتابة أو عصا لرعي الغنم.

قنديل في النهار لقاء التراب بالسحاب, أما ليلاً فالمنظر يوحي بكل شيء إلا بالاطمئنان, ويكاد, وأنت تحدق في الظلمة الدامسة الممتدة أمامك, يدور في ذهنك سؤال وحيد هو :

كيف يشعر محاربو ومحاربات (KCK) المرابطون في هذه اللحظات في كهوف هذه الجبال ومغاورها ؟!

 

نشر هذا المقال Bûyerpress في صحيفة في العدد 19 بتاريخ 2015/5/15

التعليقات مغلقة.