إليوت في ذكراه الـ 50..رائد شعر الحداثة

28

التقاطمرت أخيرا، الذكرى الـ50 لوفاة أحد أهم شعراء القرن العشرين، وهو الشاعر الإنجليزي الأميركي تي إس إليوت، الذي ألهمت قصائده جيلا كاملا من الشعراء رواد الحداثة حول العالم، وأعادت تشكيل الأدب المعاصر، وستشكل هذه السنة منعطفا هاما في فهمنا للشاعر، مع توقع إصدارات جديدة تكشف عن جوانب جديدة في شخصيته وعالمه الإبداعي. يعد إليوت رائد الأدب الحديث..

واشتهرت قصائده بمزجها الحداثة بالتراث الأدبي والطقوس البدائية، وبتشكيلها بداية الوعي الحاد بالذات المضطربة بكوامنها الممكنة والمستحيلة، وعرفت بروعة إيقاعاتها الموسيقية وصورها المهشمة، لكن نشرها كانت دونه صعوبات جمة في بريطانيا، كما يتضح في المقالة التي نشرها مؤلف السيرة الذاتية للشاعر، الكاتب روبرت كرافورد في صحيفة «غارديان» البريطانية، أخيراً.

وفي كوامن القصة، نتبين أن الشاعر الشاب، الذي هاجر الى بريطانيا لإكمال دراسته في الفلسفة، عرض على إحدى المجلات الطليعية هناك، قصيدة كان قد نظمها بعنوان «انتصار الهراء»، فرُفض طلبه مع توضيح من رئيس التحرير بأنه يرفض نشر نص يحوي كلمات من هذا القبيل.

وقبل ذلك بأربع سنوات، عندما كان في الثانية والعشرين من عمره، أكمل تحفته الفنية «أغنية حب لجي الفرد بروفروك»، التي تشكل، إلى جانب قصيدته «الأرض الخراب»، إيذانا بقدوم الشعر الحديث..

إلا أن القصيدة لم تنشر إلا في يناير 1915. وقال عنها أحد المحررين، إنها تحاذي الجنون، وأفاد آخر، بانه لم يفقه لها معنى، ونشرت في الصفحة الأخيرة من مجلة صغيرة في الولايات المتحدة الاميركية، ومضت سنتان قبل أن تنشر في ديوانه الأول.

1965

لكن إليوت أصبح أعظم شعراء القرن العشرين، عند وفاته في لندن عام 1965. كان قد أشيد به عالميا، ومنح جائزة نوبل، وذهبية دانتي، وجائزة غوته، ووسام الحرية في أميركا، ووسام الاستحقاق البريطاني. وعرفه الناس شاعرا ليس فقط لقصيدة «بروفروك»، وإنما أيضا لـ«الأرض الخراب» و«الرباعيات الأربع». وتوافدوا لمشاهدة مسرحياته، مثل:

«جريمة في الكاتدرائية» و«حفلة الكوكتيل» في مهرجان أدنبرة وعلى مسارح برودواي. واستمتع طلبة المدارس بشخصية القط الغامض «ماكافيتي»، من مجموعة أشعاره «كتاب الجرذ العجوز عن القطط العملية». وفي حفل تأبينه، امتلأ دير «وستمنستر آبي» بالحشود لتوديعه.

وإلمام اليوت باللغة وكيفية تطويعها منح شعره رنينا وصورا رائعة. ولا يزال الشعراء إلى الوقت الحالي، يقتبسون أبيات أشعاره. وهناك هذه الأسطر الاخيرة في قصيدته «الرجال الجوف»، التي تعد الأبيات الأشهر في الشعر الحديث: «بمثل هذا تنتهي الدنيا، ليس بصدمة، بل بالنشيج والأنين».

وفي بداية قصيدته الأشهر على الإطلاق «الأرض الخراب» توجد أحاسيس مفعمة بالحزن:

«أبريل أقسى الشهور، منبتا

الليلاك من الأرض الموات»

أما في بداية قصيدته «أغنية حب جي ألفرد بروفروك»، فنجد هذا المشهد الغريب:

«لنمض إذن .. أنا وأنت

عندما ينتشر المساء في السماء

كمريض مخدر بالأثير على طاولة».

صاحب الخيال الحر

وكانت قد برزت، على نقيض صورة الشاعر الشاب الذي نظم قصيدة «انتصار الهراء»، سمعة الشاعر العابس والمتزمت لإليوت مع تقدمه بالسن، حيث لقب بـ«بابا ميدان راسل»، لكن اليوت بقي مع ذلك حسبما يفيد كرافورد مدركا لحرية الخيال، فانتقد في قصيدته «الرباعيات الأربع» الروتين الذي يعيشه «رجال الادب البارزون»، الذين اصبحوا «رؤساء عدد من اللجان»..

وذلك ربما في إشارة إلى وظيفته في مصرف لويدز، أو كمسؤول عن دور نشر. وكرافورد رأى في إليوت، رغم ادائه عمله بثقة وجدية كما يفيد زملاؤه، جانبا يسعى دوما نحو الهروب..

فينقل عن ابن أخته غراهام بروس فلتشر كيف اصطحبه «العم توم» عندما كان فتى يافعا إلى متجر في الستينيات من القرن الـ20، حيث ابتاعا قنابل تُصدر روائح نتنة، فرمياها أمام مدخل فندق بدفورد، ليس بعيدا عن مركز عمل اليوت في ميدان راسل في بلومزبري. وهو يقهقه بالضحك، أسرع يجري من مسرح الجريمة، بينما كان يلوح بعصاه على طريقة «شارلي شابلن».

حكايات أكثر كمالاً

وكان إليوت في الأشهر الأولى من عام 1915 يعيش في أكسفورد. وجاء إليها بهدف الاستزادة من دراسة الفلسفة في الجامعة، لكنه كان تواقا للأدب في لندن، وكون صداقات مع زميله الشاعر الأميركي الناشط، فاشي الميول، إزرا باوند. ووالداه كانا مشككين بالمعارف الجامحة لابنهما، وأوضحا له انهما يتوقعان منه العودة إلى هارفرد ليصبح أستاذا محترما.

لكن اليوت لم يكن يرغب بذلك، وما أبقاه في إنجلترا، مع ذلك، لم يكن الأدب، بل الحب. وبعد ثلاثة أشهر من لقائه بها، تزوج اليوت الفتاة العصبية المرحة فيفيان هاي وود، التي كانت مثله، تحب الرقص والشعر وتميل للثقافة الفرنسية. لكن زواجهما انتهى بكارثة على كليهما.

فبالنسبة لأليوت، كان الزواج من فيفيان يجلب حالة ذهنية تنجم عنها أجواء (الأرض الخراب). وكان انفصالهما مؤلما، إذ أنهت فيفيان حياتها في مصح عقلي عام 1947، وكانت قد كتبت في إحدى المرات: «أحب توم، بطريقة تدمر كلينا».

وستجلب هذه السنة حكايات أكثر اكتمالا عن حياة اليوت، ما يمكن أن يساعد في فهم الشاعر والبيئة التي عاش فيها، حيث سيصدر في مارس من هذه السنة المجلد الأول من السيرة الذاتية بعنوان «إليوت شابا» التي ألفها كرافورد نفسه، وتعنى بتفاصيل حياة الشاعر منذ ولادته في منزله المريح في سانت لويس، والمليء بالكتب، عام 1888،..

وذلك الى حين نشره قصيدته «الأرض الخراب» سنة 1922. وفي الخريف، سينشر جيم ماكيو وكريستوفر ريكس طبعتهما الخاصة، المجمعة أيضا من أشعار اليوت، وهي الطبعة الأولى التي تجلب معا بالكامل القصائد التي نشرها، وتلك التي لم تر النور حتى الوقت الحالي، وهذه تشمل مزيداً من الحواشي العلمية.

ثم هناك شروح نصوص النثر الكاملة التي نشرتها مطبعة جامعة جونز هوبكينز على الإنترنت، وأوراق اليوت الخاصة بالتخرج في الفلسفة الألمانية، والطقوس البدائية المتعلق بـ«المدينة غير الحقيقية»، والطقوس النباتية في «الأرض الخراب»، وغيرها.

قصائد عنصرية

وبعض القراء يمكن أن يصدمهم إدراك أنه بين أعمال اليوت الطويلة، هناك أشعاره التي تتخذ طابعا عنصريا وذكوريا، عن الملك بولو وملكته السوداء الضخمة. وتلك الأشعار المختالة ربما سمحت له كطالب يفتقر إلى الخبرة بالاندماج مع أصدقائه في هارفرد. لكنه كان بين الكتاب الذين تحدثوا علناً ضد اضطهاد النازية،..

ومعارضته للحكومة الشمولية في زمن صعود الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي تتجلى أفضل ما تكون في مسرحيته «جريمة في الكاتدرائية». وأعماله، رغم مرور خمسين عاما على رحيله، تبقى مهمة في الأدب الحديث. ويصف النقاد استهلال قصيدة «بروفروك»: «لنمض إذن .. أنا وأنت»، بأنها تبدأ بلهجة عامية تبقي الجمهور مشدودا بإيقاع يقترب بحذر.

ولكن كرافورد لا يتفق مع قراءة النقاد، فلو بدأت القصيدة بالقول «لنمض أنا وأنت»، لبدت أكثر عامية، لكن باستخدام «لنمض إذن.. أنا وأنت» فإن الكلمات تبدو اقل إلحاحا واكثر تهذيبا واكثر وعيا بالذات. وقصيدة «بروفروك» تمثل هذا الانصهار الحاد الذي يجمع بين الحداثة والوعي الذاتي بالذات الإنسانية. وتبرز الحداثة في السطر الثالث من القصيدة «كمريض مخدر بالاثير على طاولة».

فإليوت كان يعرف منذ طفولته حدائق بوسطن التي تحوي، ولا تزال، النصب التذكاري الخاص باستخدام طبيب الأسنان وليم مورتون الأثير كمخدر، لكن لا أحد قبل اليوت، وضع الجراحة الحديثة في أغنية حب. وكلمات «لنمض إذن.. أنا وأنت» تطلق الوعي الحاد بالذات في الشعر الحديث، وكل الشعراء ورثوا من بعده تلك الحساسية الذاتية التي تلمح إلى الذات في اللغة.

وقصائد إليوت تغوص في الذات واعية باستمرار بالذوات الممكنة والمستحيلة. ومن خلال التلميحات، والاقتباسات، والأصداء ورنينها، تقدم الحياة المعاصرة طقسا متكررا، وهو شيء نسمعه بعمق أكثر مما نراه.

شاعر عالمي

ويرى كرافورد أن الشعر بقي ينظم على هذا النحو، إلى هذه الدرجة أو تلك، وأنه حتى الشعراء المختلفون عن اليوت ورثوا هذا الوعي الحاد بالذات في لغتهم، وشعرهم يجسد وعيا بأن اللغة تدور حول الذات وتنفك عنها في عزفها للصوت كما في دلالتها ومعانيها.

وعلى الرغم من أن أجيالاً من الشعراء بعد إليوت أنكروا ذلك، إلا أن تأثيره كان لا مفر منه عليهم. اما في إنجلترا، فان تأثيره كان موجودا بوضوح في أعمال شعراء انجليز مثل تد هيوز وفيليب لاركن. وفي اسكتلندا، كان هيو ماكديارميد من بين أوائل الشعراء الكبار الذين قدروا أهمية إليوت ونقلوا بعضا من بصيرته إلى ثقافة مختلفة.

وفي إيرلندا، تحدث شيموس هايني كيف قام أساتذته بتقديم قصاصات من أشعار إليوت له، على شكل كبسولة، ليحملها معه إلى ساحة الوغى. وعلى الرغم من تمرد هايني، إلا أن أشعاره «الترابية الموحلة» تظهر، مع ذلك، الحاضر بأنه تكرار وإعادة تفسير لطقوس بدائية. ومثل هذا التكرار كان هوس إليوت، وأحد الأسباب التي تحمس بقوة لموسيقى «طقس الربيع» للملحن الروسي ايغور سترافنسكي.

قصيدته «الأرض الخراب» انطبعت على هيروشيما اليابانية

وتي إس إليوت في عام 1915 كان قد وصل إلى نهاية دراسته في أكسفورد، ومضى يتسكع في سوهو من «دون وظيفة»، لكنه كان متعلماً اكثر بكثير من أي شاعر آخر في القرن العشرين، وكان قد درس مجموعة واسعة من الموضوعات، من السنسكريتية، والرياضيات المتطورة، إلى البوذية اليابانية واليونانية الكلاسيكية.

وإليوت في إحدى محاضراته قال إن الفنان يجب أن يكون مصقول الفكر إلى حد بعيد، وبدائيا بشكل صارخ في الوقت نفسه، ليسمع ويردد ما يصفه بـ«قرع الطبول».

وبعد ذلك بعقود، اعترف الشاعر النيجيري كريستوفر اوكيجبو بهذا عندما نظم قبل وفاته بفترة قصيرة في حرب بيافر «نحيب الطبول» و«درب الرعد» وغيرها من الأشعار، وهي أعمال مميزة ومنغمسة أيضا في الإيقاعات الموسيقية و«الصور المتكسرة» لقصائد اليوت.

وعندما نظم في عصرنا الشاعر الأسترالي لي موراي شعرا يربط وجود حيوان طوطمي، ووعي بالقرن الواحد والعشرين وأرواح مشبعة بشاشات، ورث فهما لفلسفة الشاعر اليوت. واصبح لاليوت وجود عالمي بسرعة مذهلة، وقصيدته «الأرض الخراب» تحديدا، تركت تأثيرا على ثقافات مختلفة. وفي إنجلترا، قرأها الشاعر الياباني نيشيواكي جونزابورو ما ان صدرت في عام 1922،..

وحمل تأثيرها إلى اليابان، وبعد هيروشيما كان لها معنى أكبر بالنسبة للشاعر نوبوا ايوكاوا ليجادل بأن «العالم المعاصر» أصبح «أرض خراب». القصيدة كتبت في أجواء الحرب العالمية الأولى، كنحيب على شاب قضى يافعا في الحرب. في أوروبا.

يرى نقاد أن اليوت كان شاعر الحب، لكن الحب المحبط، والضائع باستمرار. وفي اليونان، أعاد جورج سيفريس قولبة اليوت وتعلم كيف يجمع، كما فعل اليوت، شعورا بالحداثة وحباً عميقاً للبحر. وفي إيطاليا، يرى الشاعر ايوجينيو مونتالي الحائز على جائزة نوبل، مقدم المناظر الطبيعية المقفرة، كروح اليوت في تألقها.

وجرى ربط شاعر «الارض الخراب» أيضا، بالشاب الأصغر سنا، المولود في درسدن، دورس غرونباين، الذي استمد من عالم الإغريق والكلاسيكيات اللاتينية التي تردد صدى أسوأ الفظائع في القرن العشرين. تقول صحيفة «تايمز» إن إرثه الحقيقي، كشاعر وناشر، فتح نافذة للعالم على فضاء رحب ونظم لغة عصره في قصائد جميلة يسهل تردادها ويصعب نسيانها.

بيان الإمارتيّة

التعليقات مغلقة.