كسار الزبادي يجوب السماء – جمال عبد الناصر الفزازي- المغرب
“مقاربة لهايكو سامر زكريا” (1-2)
سعى الشعراء العرب الى تأسيس هايكو عربي باستلهام تراث الهايكو الياباني والنهل من ينابيع باشو و إسا وبوسون وشيكي عبر وسيط ثقافي غربي انجليزي كاليوت عزرا باوند، إيمي لويل، و أدركوا الهوة الفاصلة بين الثقافة اليابانية المشذبة بحكمة “الزن” الشرقية وبين ثقافتهم البيانية التي توزعت بين مذهبين : -أ/ مذهب المرزوقي الناقد والشاعر البحترى ومن معه المناصر للمجاز التشخيصي بالمقاربة في الوصف باعتباره من أسس عمود الشعر العربي – ب/ مذهب ابي تمام ومن معه الداعي الى توليد المعاني بالمجاز العقلي . وقد لاحظ الناقد عبد القاهر الجرجاني هذه المفارقة في نظرية النظم حيث الشعر صنفين، إما جانح الى الوضوح أو نحو الغموض ، ومؤشر ذلك هو الاستعارة بحسب ثنائية الحسي/العقلي : استعارة “تحقيقية ” قريبة من الادراك، واستعارة تخييلية غريبة تحتجب بالغموض الذي يفترضه “معنى المعنى” .ورغم القطائع الثقافية والتحولات التاريخية والاجتماعية التي طبعت الشعرية العربية ،فإننا نستشعر عودة هذه الثنائية للبروز في ثوب جديد ، قد انبعثت من رمادها لتتلبس بشعر الهايكو ،اذ لم يواجه الشعراء العرب خلافا كبيرا حول شرعية وجوده عربيا فتوافقوا على ضرورة تكثيف الدلالة والاقتصاد في الدوال والإيجاز اللغوي واستحضار الطبيعة بإحساس فطري واندهاش .. لكن الاختلاف كان بينا بين تيار تخصيب الهايكو بالمجاز و الاستعارة في بناء الصورة الشعرية وبين الوفاء لروح الهايكو وجوهره المفارق للشعر الحر وقصيدة النثر وشعر الومضة ،ناهيك عن اختلاف وجهات النظر حول الايقاع .
.ويمكن الاستدلال بموقع “هايكو- سوريا” الرقمي – التفاعلي في هذا الباب، حيث شهد مجادلات حادة بين المدافعين عن ضرورة تمثل جوهر الهايكو وروحه لتخصيب الشعر العربي، وبين دعاة المحافظة على المرجعية الشعرية العربية في كل تثاقف شعري مع الآخر . ولم يكن هذا الحوار بين المعلقين والمناقشين ليحسم الأمر بل وضعه موضع السؤال والبحث . ولعل تتبعي لهذا الموقع –قرابة سنة- جعلني اكتشف مبدعات ومبدعين جمعهم الهايكو اذكر منهم : سامح درويش و ديمتري افييرينوس وديك الجن “بكاي” ولميس حسون ورضوان اعيساتن ومحمود الرجبي وعلي ديوب وهالة الشعار واحمد الشبلي ومعاشو قرور وحسام قلعجي وسامي حمروني وهدى حجي وغديرحنا وعمر ضرغام و وفاء خرمة وهناء عبدو ووائل محفوظ و رئام الشمالي ومحمود موزة وعمار حمودي و انجيل عبد النور وخالد عاصي وورد فاضل وجعفر محمود ومحمد الصاري وآخرين علامات تختلف في درجة الابداع والرؤيا ، وتتباين نصوصها بين النيئ والمطبوخ ..بين المصنع المبتذل و الجيد البسيط والعميق و المدهش ،الذي لم يسبق اليه انس ولا جان…
****
ثانيا: الهايكو(هائيكو) نص شعري من بيت واحد مؤلف من سبعة عشر مقطعا صوتا يابانيا (خمسة-سبعة-خمسة) توزع على ثلاثة اسطرفي الغالب. يفترض فيه حضور الطبيعة بتسمية الفصول كما في الكيغو kigoلأنها الوجود الحاضن للإنسان ومزوده بالمعرفة الشاملة والحدسية والشعورية و المعرفية لتحقيق سعادته ، لذا أوصى باشو حامل لواء الشعراء الى الهايكو :”تعلم عن شجرة الصنوبر من شجرة صنوبر” *(1) . كما يسمى ايضا “شعر الفصول” لا تغنيا بها كما عند ابن خفاجة في وصف الجبل او شوقي في وصف الربيع او لامرتين في تصوير بحيرته بل هو اقرب الى لوحة مونيه من حيث تبئير الرؤية على مشهد بصري وحسي هي لحظه من لحظات اشراقه في نفس الرائي- هنا والآن -والتعبير عنها ، بأقل الكلمات الممكنة وأكثر المعاني عمقا وكثافة ووضوحا ، بعفوية طفولية ودهشة بدائية و بايقاع مناسب للصورة الشعرية وحالة الشاعر الشعورية- واللاشعورية- والحدسية والتخييلية انطلاقا من شرطه الثقافي والوجودي .
وسامر زكريا – مؤسس الموقع – واحد من شعراء الهايكو الكبار، ينحت نهره الخاص بحكمة وجماليات متفردة في سماء الهايكو العربي ، ليبدع فصوله بانزياحات مدهشة وحساسية عميقة مثل:
عِزُّ الخَريف
بالكاد
أُمَيِّزُ الغُيومَ مِنَ الرِّيح
فهو هنا لا يكتفي بوصف الخريف بل يرى ” الغيوم” بإحساس المستمتع والمتأمل فينبجس في وجدانه حدس ما بين الغيوم والريح من اتصال/انفصال .هي لحظة كشف جمالي – كما في التصوير الفطوغرافي- يروم التحكم في “الزوم” اكثر و تبطئ المشهد لأسر اللحظة ،كي لا تنفلت من -هنا و الآن – وهي كذلك لحظة شك فلسفي ، لان تضبب الصورة “بالكاد أميز ” ليست سوى نزوع نحو الايحاء الى أن الحقيقة لا تتمركز في الذات المبصرة ولا في العالم الخارجي المنظور بل في العلاقة المعرفية والجمالية بينهما. وبذلك تنتفى الثنائية الارسطية بنسبية الحقيقة ضدا على كل فكر يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة سواء باسم الدين او السياسة . هكذا يحاول الهايكيست اقتراح نموذج هايكو عربي اصيل ” كيغو” موضوعه الطبيعة لكنه منفتح على افق فلسفي :
نعناعُ الحَديقة
الجَدَلُ الفَلسَفيّ
يَشوبُهُ اليَخضور.
إنه شاعر قلق ومرح ،كل شيء قابل للشك من خلال تبئير موضوع الحقيقة (الجدل) ومساءلتها ، وقد صارت عامل استلاب في الواقع السياسي ذي المرجعية الماركسية ، لكن هذه المرة يراها من زاوية الحدس والسخرية وليس المعرفة العقلية .
ينوع الشاعر منظوره الى الطبيعة لكونها “مرايا ” حية متحركة مشعة تضيء جسده معرفيا وجماليا وتزوده بطاقة لاشعورية للثورة على كل الحجب الثقافية المضللة التي تراكمت عبر التاريخ فاغتالت في الانسان انسانيته وبهاءه :
أوائِلَ الخَريف
مَعاً نَجُوبُ دِمَشْق
أنا وَكَسّارُ الزَّبادي
فالشاعر و كسار الزبادي – في النص و السماء- يشتركان في فعل التحليق كمجاز لعبور ارض البشر والشر..لكنه سيلغي” واو المعية ” ويحذف إسم الفصل ودمشق.. تماما لإبداع الهايكو الاصيل والخالص:
بَهاء
كَسّارُ الزَّبادي
يَجوبُ السَّماء
ف”كسار الزبادي” كاف للايحاء الى الفصل إذ في الخريف ينتثر في السماء ولا حاجة لذكر مدينة او العواصم والدول وقد باتت جدرانا لاعتقال الحرية . هاهنا يبدو المشهد البصري “موضوعيا” ، و طبيعة طبيعية، كأن لا دخل فيه للإنسان ، لكن ندرك ان كسار الزبادي يوحي الى الشاعر ، ذاك الكائن الهش حمال الأمنيات الذي يطير برسائل الحب والأمل الى المغتربين والمنفيين والمعتقلين واليتامى والأرامل انه الهشاشة التي تخترق الفضاء الحر وتقهر حواجز المدينة الملتهبة ،إنه طاقته الروحية التي تبعث فيه الدفقة الشعورية التي نحس بها من خلال الإيقاع الداخلي. يتجسد هذا الإيقاع دلاليا في التسامي الصوفي الحر والسعيد في الفضاء السماوي ،ويتشكل تركيبيا من خلال انتقاله من الاسم النكرة المبهم “بهاء” الى الاسم العلم الخاص “كسار الزبادي” ثم الانتهاء بالفعل “يجوب” لمزيد من التخصيص. يتجه الإيقاع -إذن- من الثابت الى المتحرك ..من العام الى الخاص ، ومن الداخل “الاحساس بالبهاء” الى الخارج ” السماء” ، دون إغفال الإيقاع الصوتي بالتجنيس سواء بتكرار صوت (س ) المضعف المنبور او(المد بالألف) للإيحاء الى التسامي . ان الايقاع الداخلي بتمظهراته على المستوى الدلالي والصوتي والتركيب هو تعبير عن بنية ايقاعية نفسية يحركها نداء الحرية .
التعليقات مغلقة.