يكشف عن الصراع بين الانسان وعقبات التطور: «الميتا مسرح»… نموذج فني لفرجة الاحتجاج

46

الاحتجاج02qpt866 إرادة تظل دائما محصورة بين قوسين، يضيقان عن أن يتسعا حسب تطلعات المحتج ومصداقية مطالبه… فالعالم مؤخرا أصبح أكثر انتفاضة وثورة، فهو عالم المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية بامتياز. والشعوب – باختلافاتها – أصبحت تطلق صوتها بالاحتجاج.
وحيثما كان الاحتجاج، كان معه صوت وحركة وجسد وتجمهر… فلا حاجة آنذاك لرفع الستار أو للدقات المعلنة عن البداية . فالمسرح يعلن نفسه طقسا عفويا، الكل فيه ممثل والكل فيه متفرج… الاحتجاج في هذا المقام قد يرتبط بتمظهرات فرجوية جديرة بالدراسة. فرجة تتعدى كونها تراجيديا كلاسيكية إلى اعتبارها تكريسا للميتا مسرح في بعده الثوري. ذلك أن كل محاولة لمسرحة العالم والحياة هي، في الواقع، مسرحة لمسرح قائم سلفا فيهما. لذا، فالمسرح الحديث كله عبارة عن ميتامسرح. كما يقر بذلك ليونيل أبيل في كتابه Metatheatre : A New view of Dramatic form «
إن وجود تمظهرات فرجوية ثورية، تحتاج بالأساس إلى تثوير المجتمع، وإلى فكر ثوري، وهذا هو ما سعى إليه الميتا مسرح، سواء من خلال إبداعاته، أو من خلال مواقفه الجريئة والمخاطرة والمخلخلة، التي يتداخل فيها الاجتماعي مع السياسي، ويتفاعل فيها الفكري مع الفني، ويتجاور فيها المنهجي مع التقني، مما يجعله تعبيرا حرا لإنسان حر في مجتمع حر. ومواجهة فعالة في وجه الفكر الأسطوري الذي تحدث عنه أرنست كاسيرر، باعتباره قوة جديدة تغلف الفكر السياسي الحديث حتى أصبحت غلبة الفكر الأسطوري على الفكر العقلاني واضحة في بعض المذاهب السياسية الحديثة. وبحسب كاسيرر فقد «وصفت الأسطورة دائماً بأنها نتيجة لفعل لا شعوري، وبأنها نتيجة لانطلاق الخيال، ولكننا في الأساطير السياسية الجديدة نرى الأسطورة تتبع مخططاً، فهي لا تظهر عشوائياً. إنها ليست ثمرة شيطانية من صنع خيال خصيب. إنها أشياء مصنوعة قد صنعها صناع مهرة ماكرون إلى أبعد حد».
إن الميتامسرح، إذن، شكل درامي يترجم رؤية للعالم تقوم على نقد وإعادة بناء القيم التي يخلقها الإنسان وفق ما تمليه الشروط المحيطة به. لذا، فإن القيم المطلقة التي تقوم عليها التراجيديا تصبح غير صالحة في عالم متغير يخلق أشكالا جديدة للتعبير عن نفسه، ولعل ظاهرة الاحتجاج وصوت المظاهرات والهتافات المرفوعة في الساحات الكبرى والشوارع، تشكل وعيا دراميا قاعدته صراع من نوع جديد/قديم: صراع بين الإنسان وعقبات التطور والتقدم. فيغدو الدافع والمحفز لديه هو نيل حياة كريمة، فربط ظاهرة الاحتجاج – بشعاراتها التي تشكل سننا سيميائية بالميتا مسرح- هو في حقيقة الأمر تفيعل لمسرح ثوري، يسعى إلى تثوير المجتمع، وإبراز سلطة الشعوب مختزلا فكر المغايرة والتجديد. هنا يصبح الميتا مسرح ليس مجرد إجراء شكلي فحسب، بل انه تجسيد لنظام القيم والعلاقات في عالم متحول ونسبي. انطلاقا من فرضية تستعيد موقف جورج ستاينر القائل بـ»موت التراجيديا»، وتؤكد على ضرورة إقامة تعارض بين الميتا مسرح والتراجيديا. إذ يصبح الأهم في هذا الصدد هو كون جل الأعمال الدرامية المعاصرة، أو تلك التي سنراها مستقبلا ستتميز بخاصية مشتركة: كلها مسرحيات حول الحياة باعتبارها ممسرحة سلفا. وإن تداخلت فيها لمسات الغروتيسك والباروك والعبث.
هذا يبرهن على أن المسرح لم ينفصل عن المجتمع بقضاياه المختلفة، ولم يتوان عن كونه أداة للتوجيه الثقافي والاجتماعي، أو ليكون منبرا للدعوات السياسية والأفكار الايديولوجية. علاقة المسرح بالتغيير والمجتمع علاقة محورية وأساسية. وأوجه هذه العلاقة قد تتضح وتظهر بصورتها الجلية في المدى المتوسط عند بعض التجارب المسرحية العربية، إذ ستساهم المتغيرات والأحداث السياسية في ظهور العديد من البحوث والنظريات حول إمكانية دراسة المجتمع من خلال المسرح ودراسة المسرح عبر القضايا الثقافية والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة، وهي مسألة عرفها الغرب سالفا، حيث يمكننا أن نورد قول المسرحي الالماني ارنست توللر في عام 1927 باعتبار أن الساحة المسرحية الألمانية كانت الأرضية الخصبة لولادة تيار المسرح السياسي، كنظرية ثقافية متكاملة، حيث قال في إحدى المظاهرات «المسرح في جوهره هو الصراع، هو أن نغير الواقع تغييرا جذريا أو لا نكون».
وارتباطا بالممارسة المسرحية في شموليتها، يقتضي الميتا مسرح أن كل إجراء يقوم على اللعب داخل اللعب، سواء تحقق عبر الشكل التام المعروف بالمسرح داخل المسرح أو عبر أشكال أخرى، لأن الأساس الذي يستلزم حضوره هو ما يسمى بالمضاعفة. وللمضاعفة وجه جمالي يتمثل في مستويات اللعب التي ينتج عن تعددها تعدد منظورات تلقيها، ووجه فلسفي يتمثل في «التأملية» التي تشكل محور هذه المضاعفة. وهذا التصور بقدر ما يساعدنا على ضبط البنيات التي يقوم عليها الميتامسرح في عمل ما، بقدر ما يحتم ضرورة وضع هذه البنيات ضمن جدلية العلاقة بين الإنتاج والتلقي والكشف، بالتالي، عن صيرورة المسرح.
يعرّف باتريس بافيس الميتامسرح – في معجمه المسرحي – قائلا هو: «مسرح تتمركز إشكاليته حول المسرح، أي مسرح «يتحدث» عن نفسه: ويعرض ذاته» هذه البنية المركبة التي تقوم على الإزدواجية تدفع المتفرج بالضرورة إلى طرح تساؤلات حول آلية تركيب المسرح وتأثيره على المتلقي وجوهر الفرجة، أي حول العلاقة بين المسرح والحياة وبين الوهم والحقيقة.
إنه بهذا المعنى فرجة تتأسس على الاحتجاج الداخلي: احتجاج المسرح بمكوناته وعناصره على منظومته الشاملة، حتى قد نقول بأنه رؤية للعالم تعكس منظور المؤلف أو العصر الذي ينتمي إليه، إزاء ما يحيط به، وتسمح، بالتالي، بالربط بين البنيات الميتامسرحية وسياقاتها المتميزة.
نذكر هنا نماذج من المسرح العالمي تركت بصماتها في هذا الصدد منها مسرحية برانديللو «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» ومسرحية «لنمثل سترندبرج» للسويسري فريدريك دورنمات ومسرحية «سيرة الحياة: لعبة» لماكس فريش.
يستخلص من هذا القول إن الميتامسرح يستدعي أواليات كفيلة بتحويل التلقي السائد. فطبيعته كممارسة مسرحية نقدية تقوم ضد ما كان يعتبر خاصية أساسية للمسرح الأرسطي: الإيهام والجاذبية والاندماج، مما يخول لها أن تصنع فرجة متعددة الأبعاد، تفتح للمتلقي المجال من أجل إعمال فكره للمقارنة والنقد والحكم. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الميتامسرح كتقنية مسرحية في الجوهر، إنما تثبت مما لا يدع مجالا للشك بأن المسرح خطاب إبداعي يتجذر في بنية المجتمع فتذوب فيه الثقافة والوعي وينصهران، ومن ثم كان لابد أن يعكس مجمل التحولات الفكرية والإنسانية على مر العصور .فمنذ أن عمد رواد المسرح قديما إلى تنظيم طقوس الفرجة المسرحية وهيكلتها باستثمار فضاءات جديدة لاستيعاب فاعلية النشاط المسرحي ونقله من الممارسة التلقائية إلى قصديه جمالية رسمت ملامحها اليونان القديمة ودعمتها بتوفير مساحة من الديمقراطية، حيث اعتبر المسرح حاجة دينية واجتماعية ملحة ووسيلة معبرة عن المشاعر والطموحات، لا يزال حتى اليوم يعلن عن قدرته المبهرة كأداة للتعبير فاعلة ومؤثرة ومنافسة لأبرز الوسائل الاتصالية التي يشهدها العصر الحديث، حيث التطورات التقنية والمعلوماتية الهائلة.
إن صيغ التطور هذه لم تأت دفعة واحدة بل تواصلت عبر السنين وسوف تستمر بدون توقف، فالممارسة المسرحية اتسع حجمها، وتنوعت أساليبها، وازداد جمهورها، وتعدد المشتركون في إنتاج خطابها. وهنا وجب التأكيد على أن صيرورة المنجز المسرحي والتمكن من آليات تحولاته، لا يمكن أن تتبلور كصيغة إبداعية وكرؤية فنية وازنة ما لم يخضع الفنان أدواته ومفرداته إلى مستوى عال من البحث والتجريب الممنهجين، كما وجدنا عند رواد الورش المختبرية التي تبلورت وفق مناهج علمية «أتحدث هنا عن أمثال مايرهولد، ستانسلافسكي، برتولد برخت، غروتوفسكي، بسكاتور، انتونين ارتو، كوردن غريك، كانتور. يوجين باربا بيتر بروك وغيرهم…» فأجدني أتساءل كما تساءل آخرون قبلي: هل سيعرف المسرح العربي ومعه المسرح المغربي مختبرات قارة بمرجعية نظرية وتطبيقية لتطوير التجارب ومدها بإكسير التجدد والمواكبة للتحولات الجارية فكريا وفنيا، بما يجعل منها خطابا تواصليا فاعلا وواقعا فرجويا أجمل. لاسيما إذا أخذت بعين الاعتبار مفهوم الجمالية المسرحية باعتبارها خطابا مستقلا يعطي الإخراج مكانة أرفع ويعترف بالبعد المشهدي كعنصر أساس في الفن المسرحي، حيث المسرح «يعيش من انكاراته» كما يقول مشيل كورفان، بمعنى أنه يهدم تقاليد مسرحية ليبني على أنقاضها تقاليد أخرى، بدون الوقوع في مطبة الأكليشيهات الزائفة والمصطنعة التي تداهمنا بها بعض العروض العربية بدعوى التأصيل.
إن تثبيت ممارسة مسرحية تراعي هذه النزعة التحديثية / التجريبية في الوطن العربي، ستعكس بعدا ثوريا، خصوصا إذا عدنا لمنطلقنا الأول في هذه الورقة القائل مع ليونيل أبيل بأن ما نسميه مسرحا اليوم ما هو إلا ميتامسرح لمسرح قائم في الحياة أصلا، أي أن ظهور مسرح ثوري وإن كانت ملامحه الأولى تبدو (تشذرية) لن يكون إلا مسرحة ثانية للمجتمعات العربية ولأصواتها الاحتجاجية ولتصدعاتها المختلفة، فالجسد الفرجوي مثلا الذي أصبح عنوانا لبعض التجارب الفنية وإن بطريقة حذرة، هو مسرحة للجسد الاستهلاكي المعولم، الذي يعكس وجود خلل كما يصرح دافيد لوبروتون «التفكير في الجسد هو طريقة للتفكير في العالم والعلاقة الاجتماعية، فأي خلل يدخل على صورة الجسد هو خلل في تناغم العالم».
ففي الوقت الذي أعلنت فيه قيمة الجسد وتم الاعتراف بقدراته، أعلنت معها إمكانات استغلال هذه القدرات والمميزات. كأن قدر الجسد أن يظل مغتربا في متاهة هذا الوجود. ففي كل مجتمع يعامل الجسد وفق سلطات ضيقة تفرض عليه التزامات ومحظورات أو واجبات، انه عنف آخر على الجسد، جسد بات سلعة تنتج بالجملة، تباع وتشترى، تخضع لقوانين السوق، قانون العرض والطلب.. قانون العبثية، قانون التعذيب والقمع والتكتل في تشكيل كوريغرافي مأساوي لأجساد بشرية تحت وابل القنابل والرصاص الحي …هكذا يصبح الميتامسرح فرجة للاحتجاج.

محمد زيطان/ عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.