«القوقعة» لمصطفى خليفة وعباءةُ «خيانات اللغة والصمت» لفرج بيرقدار: شهادات مُخيفة ومخفية من سيرة الألم السوري
حين تكتب بِحبر الدم، حين ترسم على البياض نزيف جرحك، محوّ جسدك، رعشة روحك، حين تصبِّر فقط لكي لا ينتصر مُعَذِّبك، وتحلم بالموت في يقظتك، لكي لا تُهين الإنسان فيك، عندها تصمت كلُّ الألسن، وتُجحَظ كلّ العيون التي تُصَوِّر هذه الملحمة في العذاب، هذا العار في قُبح الحياة، وهذا الخلاص الأُعجوبة من براثن الطاغية لكيانِ وروح إنسان الحقّ.
فرج بيرقدار الشاعر والسياسي السوري، ومصطفى خليفة السينمائي السوري المسيحي الإخواني؟ أرباب المُعذبين في سجون الاستبداد، مُترجمي الآهات والصراخ والشتائم والجوع والكرامة والإهانة والهزيمة والانتصار ووو… خِفية في زوايا النَفْس وخبايا الذاكرة وشقوق الجراح وفقاعات النَفَس ودوائر الغصة ومضايق الانقباض، حتى تتخاطر جُلّها مع القلم على البياض، شهادة حياة جديدة أو ظلَّ حياة مُخيفةٍ مخفية.
بيرقدار في كتابه»خيانات اللغة والصمت» وخليفة في كتابه « القوقعة» في حوار للعذاب والعزلة عبر جزيئات الهواء، لمدة كما خمنت حسب قراءتي للكتابين تتراوح بين سنتين أو ثلاث في مهجعين مستقلين متقابلين أو متجاورين، معزولين بساحةٍ مخصصة لكلّ مهجع في السجن الصحراوي.
بيرقدار بلغة الشاعر وإحساسه يُدير عجلة العذاب في آلات وأدوات السجان، وبفراسة الشاعر أيضاً يلتقط الحقد المُحتل في إنسان نسيَّ إنسانيته.
خليفة بدوره حاملاً كاميرة روحهِ، قابضاً على الومضة الخفية في شذرات العذاب، يقوده كحوذيٍّ، يُلبس عُرّي العار بالكلمات، يُحاكي الشاعر ويُبادله الآهات والنحنحات والوهوهات والصمت.
بيرقدار المسجون سياسياً يُصوِّر الحالة التي يعانيها المسجونين بتهمة الإخوان ومنهم خليفة المسيحي؟!! أو بالأحرى على لسانه هو المُلّحد:
« … أما الباحات الأخرى التي تضم الإخوان المسلمين وبعث العراق وبعض التهم المتفرقة، فقد كانت حالها أقسى وأكثر بؤساً وخطورة وتراجيدية… حالٌ لم يُنذر بها من قِبل نبيّ ولا كتاب» ص74.
وخليفة بالحسّ المشترك نفسه، في ذلك السجن يُحاكي الشاعر كيف أن مغاسل الإخوان حُوِّلت إلى مهاجع لاستقبال الشيوعيين، ومنهم بيرقدار في حوار بدون معرفة:
«سوف يُلغى الحمام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يُوضع فيه فيه المعتقلون الشيوعيون».
بيرقدار والسجناء السياسيين، وتوضيحا للصورة أمام لجان حقوق الإنسان وإعلاميي العالم، لهم طلبات تـُلبى حين يُضْرِّبون، ويعتبرون انتصاراتهم كلّها في السجن من هذا القبيل:
«انتصار أنقى من الدمع، وأغلى من الدم.. فلنغسل جراحنا وعذاباتنا على مهل.. على مهل.. ولا بأس أن نبكي قليلاً، ونحن نرقبُ نجمة الكرامة تشقُّ عباءة ليلٍّ طويل من الذُّل وترتفع» ص73.
خليفة المتهم بالانتماء إلى الإخوان المسلمين رغم ديانته المسيحية، وذلك فقط لأن أحد كُتاب التقارير من زملائه في باريس! أيام الدراسة، رفع فيه تقريراً عن شتمه لرئيس الدولة، دفع من عمره ثلاثة عشر عاماً ونيِّف، هو والجماعة الإسلامية ينتظرون الموت في كلّ لحظة، سواءً بالمحاكمات الميدانية يومي الاثنين والخميس حين تَهدُّر طائرة الهليوكوبتر فوق السجن، أو حين يريد ضابطٌ ما أن يُشبَّع ساديتهُ في نزوةٍ عابرة، وتبقى انتصاراتهم تبديل رجل مرفوعة بأخرى في غفلة عن السجان، وكلّها ستكون من هذا القبيل:
«لم أعدّْ أستطيع الاحتمال، أغامر.. أبدل!!ـ لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار! بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشفُ أنّه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كلّ انتصارات السجين ستكون من هذا العيار».
«مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيباً؟!» «عندما نسمع صوت الهليوكوبتر يرتجف! ويتوتر كلّ من في السجن….»
سواءً كنت سجين رأي أو إخواناً، فإن أدوات التعذيب مُشتركة، ولابدّ لكَ من المرور ضمنها، ولابدّ للوجع أن يرسم خريطته على جسدك، ولابدّ لصرختك أن تشقَّ عنان السماء، ولابدَّ أن تنفر روحك من جسدك وتتمسك بهُدبٍّ صغير نافرٍ منها، هو ما يُبقيك على قيدِّ الحياة، ولابدَّ أن يركبَ عليك الكرسي الألماني، ولابدَّ أن تُشبَّح عارياً معلقاً بالمقلوب، ولابدّ «للكلبشات» الإسبانية أن تصنع لك سواراً من دم حول معصميك، ولابدَّ أن تعود جنيناً مُلتفاً على نفسك ليس في بطن أمك، وإنما في دولاب الاستبداد المُخصص لنسفِّ ما صرته من كِبَر، أو ما عمرتَ من سنين لتُعاد قهقرة.
على لسان بيرقدار:
«تخيَّل ردّ فعل الناس، وأنتَ تتحدث عن الفسخ والدواليب.. عن الكهرباء وتوسيع حدود الكون بالصراخ و الانخطاف وجلالة العدم و اللامعنى.. أو حين تتحدث لهم عن ذلك الكرسي، الذي يجلس عليه المرء، بمنتهى الفجور والقسوة والجبروت.» ص28
على لسان خليفة:
«ثلاثة أيام لن أنساها ما حييت، الجَلد، الضرب في الدولاب، على بساط الريح، التعذيب الكهربائي، تثبيت الملاقط على الأجزاء الحساسة من جسدي ويشغل الجهاز.. يبدأ جسدي رقصته الكهربائية، أحسُّ أنّني سألفظ أنفاسي، أعجز عن التنفس، لكن كنت أحسُّ بالراحة! عندما يفكون يديَّ ويأخذونني إلى الدولاب أو بِساط الريح أو الكهربائي.. كلُّ وسائل التعذيب أسهل من التعليق هذا (الشبَّح)»
كل أيام السجن متشابهة، فقط ما يجعلك أن تدرِّكها وأنت سجين هو بقائك حيّاً لمدة طويلة في هذا النهج من التعذيب والتذليل والسادية، إنّ كنتَ سجيناً بتهمة الإخوان يُضاف إلى الأيام التالية تغيُّر الوجوه، رحيل القسم الأعظم موتاً، سواءً شنقاً أو تحت التعذيب، وإن بقي من أحدٍّ! فإنهُ عبر أشكالهم الخارجية وانفعالاتهم تـُدرِّك كيف أودى هسيس الزمن بكَ دون إرادةٍ منك.
يتأملُ خليفة حالته من خلال المسجونين معه بعد عشر سنوات من السجن: «عشر شتاءات وأنا جالسٌ في المكان نفسه، ضمن الجدران نفسها، إلى جانبي الباب الأسود ذاته، تغيّرت كثير من الوجوه حولي، الفرقة الفدائية التي كانت تقوم بإدخال الطعام والتطوع للذهاب لتلقي العقوبات بدلاً من المرضى وكبار السن، والتي كانت موجودة لحظة قدومي إلى المهجع، لم يبق منها أحد، إما شنقاً وقتلاً أو مرضاً، ذهبوا.. غابوا جميعاً، أبو حسين رئيس المهجع الحالي، أصبح حاجباه أبيضين، لم يكن فيهما أي شعرة بيضاء، رغم أنّني أرى الجميع يومياً ولكني باسترجاع صورهم قبل عشر سنوات، أستطيع أن ألمح الزمن وآثار المعاناة على وجوههم، تـُرى كيف أصبح وجهي؟!».
كذلك بيرقدار يرسم صورة أيامه خلال أربعة عشر عاماً قضاها في سجونٍّ مختلفة وكأنها قصيدة مُدماة:
«صباحاتٌ مضفورةٌ بالشوك، ومساءاتٌ مسفوحة المعنى بين أجراس الصمت ومناديل الليلك» ص83. وكذلك يقول:
«تعلمنا كيف يمكن ترقيع الثياب أكثر من مرّة.. وكذلك الروح والجسد والذكريات» ص84.
خلال السجن الطويل إن بقيتَ حيّاً، كما هو حالُ كاتبينا، هناك صور لا يمكن أن تُغادِّر مُخيلتُك، وأمامها تتناسى ما ذقته من عذاب وإهانة، هناك في ظلِّ غياب القضاء والمحاكم، وعدم وجود كلمة العدالة في قاموس الطاغية، ما تجعل النَفس البشرية مُقرِّفة، تشمئزُ منها الأعاجيب.
يستعيد فرج بيرقدار قصة سجن مازن صاحب أغلى حلم في العالم وكذلك صورة الفأرة وهي توضع في فم سجين:
«تصوروا أنّ جميع الروايات التي سمعتها تؤكد، بمنتهى الجدِّ والسخرية، أنَّ السبب الوحيد الأوحد لاعتقال مازن هو الحلم!» ص115.
وحلمُ مازن حسبما يوضح هو ليس سوى عملية اغتيال، أو انقلاب أو جنازة مسؤول، حادثَ به صديقا له، وقبض عليه، فجرّه الحلم إلى سجن طويل.
«أدخلَ الشرطيُ فأرةً في فم السجين ،وأمرّه أن يبتلعها ابتلاعاً بدون أيِّ مضغ!»ص52.
نفسُ حالة الفأر تكلم عنها مصطفى خليفة، بالإضافة إلى حالة لا تخطرُّ على بالِّ أيِّ مُجرم، سوى المنغمس في إنكار إنسانيته وهي حشرُّ عصا في مؤخرة مشنوقٍّ من قِبل مُنفِّذ الشنق والمناداة بحياة الرئيس:
«ومع كلّ كلمة (يعيش) تتأرجح العصا ذات اليمين وذات الشمال».
وأيضاً من الصوّر التي لا تُنسى حسب ما يقول السجين هي المواقف المتعلقة بالشجاعة والجرأة في مواجهة الموت، ومنهم العميد الذي أبى شرب ماء البالوعة حين قَدِّم مع خليفة إلى السجن الصحراوي، وكذلك أبو محمد الذي هجم على الشرطة العسكرية وقتل منهم اثنين وهو في طريقه إلى الإعدام، يُعبِّرُ خليفة قائلاً:
«من الأشياء التي لا يمكن أن أنساها أبداً، شجاعة العميد في الساحة الأولى وشجاعة أبو محمد في الساحة السادسة».
بِحرقةٍ ممزوجة بالإنكار يصرخ بيرقدار عما لاقاهُ في السجن الصحراوي، أودى به إلى إنكار كلّ شيء:
«كلُّ الأشياء مقلوبة… كلُّ الآلهة عاجزة ومُجلّلة بالخزي.. وحده الموت يقفُ عابساً مهيباً ثابت الجنان» ص46.
وبِالحرقة نفسها وبالإنكار نفسه يتساءل خليفة:
«أيُّ عبقريٍّ هذا الذي أوجدَ فكرة السجن! هل هو الإله؟ يجب أن يكون كذلك.. لأنَّ فيها من الإعجاز ما يفوق قدرات العقل البشري».
كثيرةٌ هي التفاصيل التي يمكن أن تُكتب على الورقة ككلمات تصويرية، لكن لا يمكن أبداً أن تكون ولو إلى حدٍّ صغير بمرتبة من عاشها فعلاً حيّاً، من النوم كبساً كراحة في الموت، إلى التدرُّب على الموت يومياً كعذابِّ نفسٍّ وجسد، ويبقى أنَّ من عاش هذا العذاب ينتظر كلاماً من أحدٍّ ما ، ما هو إلا الشعب المُستظِلِّ بحكم هذا الاستبداد:
«وأنتّ… بلى أنت… فكم يخجلني صمتك» ص162. على لسان بيرقدار. «السيارة تتوقف عند إشارات المرور، أنظرُ إلى الناس، أتفحص وجوههم، ما هذه اللامبالاة، تُرى كم واحداً منهم يعرف ماذا جرى ويجري في السجن الصحراوي؟! تُرى كم واحداً منهم يهتم؟! أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً! يتغنون به… يُمجِدونه.. يُؤلهونه؟ ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ما يجري في بلده؟ إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة، وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم، استنتجتُ أنَّ هذا الشعب إما أنّ يكون مخدِّراً أو أبله!». على لسان خليفة.
لكن ما أظهره العام 2011 وما تلاه ليعطي جزءاً من جواب إلى خليفة وأيضاً بيرقدار، وما الشعب إلّا هُمّْا، لكن بصبرٍّ صامت.
ما بعد السجن الطويل والحياة العدم فيه، يبقى سؤالٌ مُلح:
كيف تبدو الحياة لهما؟ هل من خلاصٍ وشفاءٍ من تلك السنين؟ يُجيب بيرقدار:
«فبأيِّ قداسةٍ تحتفي، وأنتَ تجرُّ وراءكَ جُثة تُشبِّهك إلى حدٍّ بعيد» ص 148.
وخليفة يُبرِّر سبب جنون صديقه نسيم في السجن ومن ثم انتحاره بعد الخروج، بأنهُ هو نفسه بعد سنة من ولوجه خارج السجن يعيش في ذلك الماضي الأليم:
«مضى عامٌ كامل ومازلتُ أرى نفسي عند استيقاظي في السجن الصحراوي»
وهكذا لا ينتهي الكلام عن تجربة لم تعشها أنت وعاشها غيرك في العذاب والعدم؟ وأنت فقط تتعاطف معهم وتُشفِّق على نفسكَ في ما أنتَ تعيش في ظلِّ نَفس السجان، لكن قد تكون شهادةً تُضاف إلى شهادتهم في رسم لوحة سريالية لا بشيء إلا إنّْ كنتَ كائناً أو لوناً أو حتى إطاراً من جسدها ورعشة من رعشات روحها.
غمكين مراد عن القدس العربي
التعليقات مغلقة.