مؤتمر الرقة ورسائل الصراع غير المعلن بين أمريكا وتركيا

22

د. محمود عباس

يُجرى التحضير لعقد مؤتمر وطني في مدينة الرقة، على غرار مؤتمر الحسكة الذي انعقد في 8/8/2025م، والذي شكّل محطة مفصلية في التاريخ السوري الحديث، فقد أثبت مؤتمر الحسكة، بمخرجاته وتنوع المشاركين فيه، أنّ الوطنية السورية الحقيقية لا تُختزل في لون واحد أو إيديولوجيا أحادية، بل تُبنى على التعددية والشراكة. لقد نجح المؤتمر في تقويض شرعية “المؤتمر الوطني السوري” الذي عُقد في دمشق برعاية ما يُسمّى بالحكومة السورية الانتقالية، إذ كشف للعالم أن ذلك المؤتمر الدمشقي لم يكن سوى إعادة إنتاج لنهج الإقصاء والتهميش الذي مارسه نظام البعث والأسد على مدى نصف قرن من الزمن.

هذا النجاح أثار حفيظة أنقرة، التي سارعت إلى التحريض على مهاجمة مؤتمر الحسكة، ودَفعت الحكومة الانتقالية لتبني خطاب عدائي علني تجاهه، لم يقتصر الأمر على التصريحات، بل كلّفت تركيا شريحة من المتطرفين بتنفيذ عمليات تشويه، مدعومة بادعاءات واهية لا تخدع أحداً، أمام ذلك، وبمبادرة قد تكون بتشجيع مباشر من باريس وواشنطن، بدأت ملامح مؤتمر وطني جديد في الرقة، يُرتجى أن يكون أكثر شمولية، يغطي كامل الخارطة السورية، ويطرح بديلاً سياسياً جامعاً يضع القوى الإقليمية والدولية أمام حقيقة لا يمكن إنكارها، أن الحكومة السورية الانتقالية غير قادرة على احتضان الشعب السوري، لأنها أسيرة ثقافة إيديولوجية أحادية الوجه والفكر.

ومن المتوقع أن يكون لمؤتمر الرقة المقرر عقده في 25 آب/أغسطس 2025 أثر يتجاوز نطاق جغرافية الإدارة الذاتية، إذ قد يفتح الباب نحو بيئة وطنية حقيقية تنذر القوى الإقليمية والدولية بأن الشعب السوري لن يقبل بعد اليوم إعادة تدوير الاستبداد بواجهات جديدة، فإن أرادت الحكومة السورية الانتقالية أن تنقذ نفسها من مصير محتوم يشبه مصير النظام البائد، فعليها أن تسعى للشراكة في هذا المؤتمر، كخطوة أولية نحو إعادة النظر في الدستور، وبناء برلمان فعلي، وتأسيس عقد وطني جامع، غير أن هذه الشراكة لن تكون ممكنة من دون قبول مبدئي بمبدأ الفيدرالية واللامركزية، وإقرار بأن الوطن ملك لجميع مكوناته بلا استثناء.

لكن هذا المسار لن يخلو من العقبات، فأي محاولة للحوار بين الحكومة الانتقالية والإدارة الذاتية، أو للتقارب مع الحراك الكردي والمكونات الأخرى، ستواجه بمعارضة شرسة من المنظمات التكفيرية، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، وكذلك من بعض القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا، ولذا فإن أي خطوة من هذا النوع ستعني ضمناً مواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع أنقرة، ولن تكون ممكنة إلا برعاية دولية واضحة، وعلى رأسها الرعاية الأمريكية، التي بدأت بالفعل تدفع نحو توافق وطني جديد يوازن بين مختلف القوى السورية.

وفي الواقع العملي، بدأت الساحة السورية تُظهر إلى العلن مواجهة غير مباشرة بين المصالح التركية والأمريكية، ولا شك أن إسرائيل أيضاً من القوى المعنية في هذا المجال، وما يُتوقع أن يحدث قد يشبه ما جرى في المواجهة غير المباشرة بين إسرائيل وإيران، رغم أن تركيا تبقى دولة ذات علاقات استراتيجية عميقة مع واشنطن على مستويات متعددة، لكن السياسة الأمريكية الحديثة، وخصوصاً في ظل التوجهات “الترامبية”، باتت تضع مصلحة الولايات المتحدة فوق أي تحالف تقليدي أو شراكات تاريخية. ورغم أن الإشكالية السورية لم تعد على رأس أولويات البيت الأبيض، إلا أن ذلك لا يعني غيابها عن أجندة المصالح الأمريكية، فواشنطن تظل تراقب مجريات الأحداث في سوريا بوصفها جزءاً من استراتيجيتها للشرق الأوسط، وبوابة مراقبة لما يجري في العراق ومحيطه.

وعليه، فإن مؤتمر الرقة المرتقب لن يكون مجرد لقاء سياسي محلي، بل خطوة اختبارية فاصلة للحكومة السورية الانتقالية والمنظمات التابعة لها. هذا المؤتمر سيكشف بجلاء المسار الذي ستسلكه سوريا: فإما أن تنفتح هذه الحكومة على شراكة حقيقية مع قوى الإدارة الذاتية، وفي مقدمتها الحراك الكردي، بما يقود إلى عقد وطني جامع يؤسس للتعددية والفيدرالية؛ أو أن تختار الارتماء مجدداً في حضن الاستبداد بأقنعة جديدة، لتعيد إنتاج الماضي المظلم بثوب آخر.

 

الولايات المتحدة الأمريكية

 

التعليقات مغلقة.